تشهد العلاقات السياسية والدبلوماسية بين إسرائيل والصين حالة من التذبذب والتقلّب جعلت من الصعب على المراقبين تفسيرها وتحليلها وفق قواعد ونظريات العلاقات الدولية التقليدية، إذ أن العلاقة بين الطرفين متشابكة ومعقّدة وتتأثر بشكل كبير بطبيعة الصراع القائم بين الصين والولايات المتحدة وانعكاساته على الأمن القومي الأمريكي، والذي يتعرّض للتهديد بسبب الصعود الصيني المتنامي في المنطقة والعالم، وتسجيلها للعديد من الاختراقات -أي الصين- في الساحات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجيا الدقيقة المتعلقة بالاتصالات والتحكم وغيرها، وذلك على حساب النفوذ الأمريكي الذي ظلّ مترسخاً لسنوات طويلة بلا منافس حقيقي يعيد لهذا العالم توازنه.
السياق التاريخي للعلاقات بين البلدين
بعد قيام إسرائيل عام 1948 اعترفت الصين “الوطنية” بالدولة اليهودية الناشئة في الشرق العربي، وجاء الاعتراف الصيني بإسرائيل في وقت كانت فيه الحرب الأهلية الصينية محتدمة بين الوطنيين “فرموزا سابقا وتايوان اليوم” والماويين الشيوعيين “الصين الشعبية اليوم” والتي دامت ثلاث سنوات 1946-1949.
وبالرغم من وقوف الغرب بما فيه الولايات المتحدة وأوروبا الغربية مع الصين “الوطنية” ضد الصين “الشعبية الماوية الماركسية”، على اعتبار أن الأخيرة كانت مدعومة من قبل الاتحاد السوفيتي، إلا أن إسرائيل فاجأت الجميع بالاعتراف بجمهورية الصين الشعبية ضمن اعتبارات إستراتيجية ومصلحية محددة المعالم، لمنع الدعاية العربية ضد إسرائيل في الصين.
لكن النظام الشيوعي تعامل بحذر مع إسرائيل التي ربطتها منذ إنشائها علاقات مميزة مع الغرب ومع أعداء النظام الجديد في بكين، وتجسد ذلك بوضوح في موقف إسرائيل الموالي لأميركا والمعادي للصين خلال الحرب الكورية، كما ظلت إسرائيل الداعم الرئيس لنظام جمهورية الصين الوطنية في تايوان، فوق ذلك دعمت إسرائيل الهند وزودتها بالأسلحة خلال حربها مع الصين العام 1962
ظلت العلاقات الصينية- الإسرائيلية محصورة عند حدود الاعتراف المتبادل من دون علاقات دبلوماسية طيلة عقود اتسمت بالتوتر والعداء ودعم كل طرف لخصوم الطرف الآخر، وبرزت علاقات الصين المميزة مع الدول العربية المناوئة للنفوذ الأميركي وخاصة مع نظام عبد الناصر، وكذلك مع الثورة الفلسطينية التي كانت جمهورية الصين الشعبية من أوائل الدول الأجنبية التي دعمتها واستقبلت قادتها ووفرت لها كثيرا من الدعم المعنوي والتدريبي.
واستؤنفت العلاقات الصينية- الإسرائيلية في العام 1992 بعد انطلاق محادثات التسوية في الشرق الأوسط وفق مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 من جهة، ومع تسارع خطوات الإصلاح والانفتاح الصيني من جهة ثانية. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن شهدت العلاقات الصينية- الإسرائيلية تطورا متسارعا عكس نفسه في شتى المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية وصولا للتعاون التكنولوجي والعسكري.
القطب الصاعد
تنظر إسرائيل إلى التنين الصيني على أنه القطب الصاعد بقوة عالمياً، بغض النظر عن طبيعة العلاقة التنافسية بين الصين وأمريكا الحليف الإستراتيجي لإسرائيل، إذ أن الاستراتيجية الإسرائيلية في العلاقات الدولية تستند إلى النظرية “النيوليبرالية”، والتي ساهم في بلورتها وتعزيزها في الفكر السياسي الإسرائيلي كل من شمعون بيرس، ويوسي بيلين، وحاييم رامون، وهي مدرسة قائمة على تبادل المنفعة وتحقيق أكبر قدر من المصالح المشتركة، الأمر الذي يدفع بصانع السياسات الإسرائيلي للمواءمة والموازنة ما بين وجوب المحافظة على الحليف الإستراتيجي الأمريكي، وضرورة الاستثمار في العلاقة الثنائية مع القوة الصينية الصاعدة.
ثمة مؤشرات تؤكد أن إسرائيل تسير بخطى واثقة نحو تعميق علاقاتها مع القوة المرشحة لأن تكون الأولى اقتصادياً حول العالم بحلول عام 2030، من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي مع الصين عبر بوابة التجارة البينية والمشاريع الاقتصادية المشتركة، ما يؤدي في المحصلة النهائية إلى خلق حالة معقدّة ومتشابكة من الاعتمادية المتبادلة صعبة الفكاك، والتي تمكّن إسرائيل من استثمارها لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية، وتوظيفها بما يخدم المصالح القومية الإسرائيلية.
وتتمسك الصين باستخدام القوة الناعمة إلى جانب القوة الصلبة بهدف زيادة نفوذها السياسي في العالم والحصول على حاجاتها وتحقيق مصالحها القومية، من خلال علاقاتها الخارجية بالفاعلين الدوليين والإقليميين، فبالإضافة إلى القوة الاقتصادية والعسكرية والتقنية والسكانية والجغرافية، فإن الصين تلجأ أيضا إلى استغلال القوة الناعمة مثل الثقافة والفنون والرياضة والأيدولوجيا والدبلوماسية والإعلام الجديد من أجل الترويج لسياساتها الخارجية القائمة أصلاً على شعار توسع الصين السلمي في العالم اقتصادياً وتقنياً وسياسياً.
الدوافع الإسرائيلية
تعتمد إسرائيل التقدم التكنولوجي والبحث العلمي كأحد الأسس للقوة الناعمة الإسرائيلية، حيث تخترق من خلالها دولا في العالم الثالث، وتعزز علاقاتها مع دول صاعدة كالهند والصين، وتسعى لكسب احترام العالم وتقديم إسرائيل كمعجزة علمية واقتصادية يمكن محاكاتها في دول أخرى
وتتركز الأهداف الإسرائيلية في علاقاتها مع الصين حول التصدير للبرمجيات والتكنولوجيا الدقيقة حيث بلغت نسبة الصادرات الإسرائيلية إلى الصين حوالي 51% في هذا المجال، وهناك 3 صناعات رئيسية ومتنامية من الصادرات الإسرائيلية للصين، وهي معدات القياس والتحكم الصناعية، والمواد الكيميائية، والمعدات الطبية، وبينما تعتبر صناعة التكنولوجيا الفائقة المحرك الرئيسي للنمو في إسرائيل تم تصميم “شراكة الابتكار الشاملة” مع الصين في 2017 لتعزيز العلاقة بين الابتكار التكنولوجي الإسرائيلي وطلب الصين عليه.
وأصبحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، وقبل كل دولة أوروبية على حدة، وبينما وصل حجم تجارتهما البينية في 2001 إلى 1.07 مليار دولار ارتفع في 2018 إلى 11.6 مليار دولار، وتعتبر بكين ثالث أكبر وجهة للصادرات الإسرائيلية بعد واشنطن ولندن بقيمة 4.7 مليارات دولار، ويأتي الاستيراد الإسرائيلي من بكين في المرتبة الثانية بعد واشنطن بقيمة 11.4 مليار دولار في صناعات الإلكترونيات والمنسوجات وألعاب الأطفال والأثاث والمعادن والكيميائيات.
يتراوح العدد الإجمالي لصفقات الاستثمار الصينية في إسرائيل بين 40 و45 صفقة سنويا، ورغم أن الاستثمارات الصينية لم تزد بعد على 10% من إجمالي رأس المال الأجنبي في إسرائيل لكنها فازت بمناقصات كبيرة للبنية التحتية للمواصلات في إسرائيل.
وبدأت بالتقدم لمناقصات في مجال البنية التحتية للمياه والكهرباء، فقد حفرت الصين سلسلة من الأنفاق في الكرمل والقدس وغوش دان، وتدير المشاريع الإستراتيجية كأعمال التعدين وتأسيس السكك الحديدية الخفيفة في تل أبيب وبناء خط القطار إلى إيلات وبناء الميناء الجنوبي في أسدود.
من ناحية متعلقة بالأمن القومي الإسرائيلي والتهديدات التي تتعرض لها من قبل جهات معادية؛ ترغب إسرائيل في كبح مبيعات الصواريخ الصينية لخصومها من بعض الدول العربية وإيران والمنظمات والفصائل العسكرية في المنطقة، حيث يعتقد الإسرائيليون أن بعضًا من هذه الصواريخ كان وراء تدمير البارجة الإسرائيلية من قِبَل حزب الله خلال حرب يوليو/تموز في لبنان عام 2006.
الدوافع الصينية
تدرك الصين أن تطوير علاقاتها مع إسرائيل لن يكون له أية نتائج سلبية لعلاقاتها مع الدول العربية، نظرًا لتزايد الاعتراف العربي بشكل مباشر أو غير مباشر بإسرائيل، ومن ناحية أخرى ترغب الصين في استثمار اللوبي اليهودي في الكونجرس الأميركي بشكل خاص والنفوذ اليهودي في العالم بشكل عام؛ لدفع إسرائيل لتوظيف علاقتها مع اللوبي اليهودي لاتخاذ قرارات لصالح الصين، أي أنه كلما كانت العلاقات الصينية-الإسرائيلية أكثر تطورًا، كان اللوبي اليهودي في المؤسسات الأميركية والأوربية أقل عداء للصين.
كذلك ترغب الصين في تطوير علاقاتها مع المؤسسات التجارية والتكنولوجية ومراكز البحث العلمي الإسرائيلية، ما سيتيح لها الوصول إلى التكنولوجيا الغربية التي يسهل على المؤسسات الإسرائيلية الوصول لها عبر فروع هذه المؤسسات الغربية في إسرائيل، بينما كثيرًا ما أُوصِدت أبواب هذه المؤسسات في وجه الصينيين، أي أن هذه العلاقة تؤدي بالصينيين بطريقة غير مباشرة للوصول للتكنولوجيا الغربية التي تحتاجها الصين لتعزيز قدرتها على منافسة الولايات المتحدة.
كما عملت الصين على استثمار علاقاتها مع إسرائيل للاستفادة من التكنولوجيا العسكرية المتقدمة التي تملكها إسرائيل بحكم ارتباطها الوثيق بالجيوش الغربية والجيش الأمريكي بالتحديد، فقد باعت إسرائيل أسلحة للصين خلال الفترة من 1984-1994 بمبلغ 7.5 مليار دولار، منها طائرات حربية ودبابات ميركافاه ومدافع حربية وقطع غيار ومدافع أضيفت إلى الدبابات الصينية سوفييتية الصنع.
وكانت إسرائيل هي المزود الثاني للصين بعد روسيا بالأسلحة والتكنولوجيا الحربية، إذ شملت الصفقات بين الطرفين تزويد إسرائيل للصين بتكنولوجيا إنتاج صاروخ جو – جو، وتعزيز مشاريع التعاون العسكري لتطوير طائرات مقاتلة وأنظمة للتحكم والسيطرة، كما كشفت الاتفاقية الصينية-الإسرائيلية عام 2000 عن تعاون في مجال الدفاع بخاصة في إنتاج طائرات بدون طيار، وهي الاتفاقية التي عطَّلتها واشنطن بعد اكتشافها.
تخوفات أمريكية
وتتخوف الولايات المتحدة الأميركية من التقارب الإسرائيلي – الصيني من جهتين أساسيتين، الأولى تتمثل باستثمار الصين في شركات وتقنيات تكنولوجية إسرائيلية بهدف رفع مكانتها العسكرية والصناعية، والثانية تتمثل في الهلع الأمريكي من وقوع التكنولوجيا العسكرية المتقدمة والمتوافرة في إسرائيل بين أيدي الصينيين، وهذا ما دفع بواشنطن للتدخل وإلغاء عدد من الصفقات بين الجانبين كاتفاق بيع إسرائيل أنظمة “فالكون” المحمولة جواً للإنذار المبكر والسيطرة للصين، وكذلك إلغاء اتفاق لبيع طائرات الاستطلاع “هاربي” عام 2004 بسبب ضغوط أميركية قوية.
وأمام توجّه الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة بايدن إلى تعزيز الاستقرار والهدوء في المنطقة من خلال حل القضية الفلسطينية على أساس “حل الدولتين”، وإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران والذي قام الرئيس السابق دونالد ترمب بإلغائه؛ تفكر إسرائيل جدياً في وضع الولايات المتحدة أمام خيار صعب، يتمثل في تعزيز التعاون مع الصين، ومع ما يحمله ذلك من مخاطر جدية من تسرب التكنولوجيا الأميركية الحديثة، وبخاصة العسكرية إلى بكين، أو أن تقوم إدارة بايدن بأخذ رغبات وتوجهات إسرائيل محمل الجد في القضيتين.