عاجل / محرر الشؤون السياسية العربية لبلكي الإخباري يكتب : عن قمة جدة 2023 وملامح السعودية الجديدة

نجحت السعودية في انجاز قمة عربية مختلفة ، ونجحت بالتالي في لفت الأنظار والإضاءة على السعودية الجديدة بنسخة الملك القادم "محمد بن سلمان" .وسواءً ارادت السعودية خطف الأضواء ، أو استثمار ضيافتها للقمة العربية للإعلان عن السعودية الجديدة من على منبر (البيت الأساس) ، أو أن ولي العهد السعودي ذاهب فعلاً في السعودية نحو استكمال مشروعه الذي نرى مفاعيله على الأرض في غير اتجاه ؛ فالثابت أنه حقق من القمة ما أراد.فالأضواء مثلاً سبقت عقد القمة ، وباتت متابعتها ضرورةً لسبر الواقع العربي المشترك مابعد سنوات من الفرقة والخراب والتأزم ، ولاستقراء الوجهة التي ستنتهجا السياسة السعودية بعد سلسلة من المواقف والاستدارات التي أوحت برغبتها تقديم ذاتها انطلاقاً من نفوذها ودورها وقدرتها على التأثير عبر اتخاذ قرارات سيادية غير مألوفة ، وخطوات في اتجاه تنويع التحالفات ومغادرة منطق المحاور والتبعية التقليدية ، وتصالح مع الجوار ضمن ما بدا وكأنه سياسة (تصفير المشاكل) ، والانبراء للعب دور الوسيط في ملفات وازنة على مستوى العالم ، فضلاً عن المنطقة والإقليم .وكان طبيعياً ان تتجه الأنظار إلى قمة هي أول استحقاق رسمي موسع سيحضره الرئيس السوري "بشار الأسد" وسيتحدث فيه بعد أكثر من عقد من الحصار السياسي والدبلوماسي المتوازي مع الحصار الاقتصادي الاستثنائي الخانق.حضور الأسد جاء نتيجة نجاح الرياض في ترجمة المبادرة الأردنية والتقارب العربي مع سورية إلى قرار وزاري عربي بإلغاء تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية ، والذي اتخذ عام 2011 بإصرار من قطر وبعض العرب في غفلة من التاريخ وتناقض مع روح الأخوّة و مصالح العرب والمنطقة.
كما أن عقد القمة في أجواء التفاهمات والتهدئة التي تسود المنطقة والتي كان أبرزها الاتفاق السعودي الإيراني خلق أسئلة مهمة حول مصير الملفات المشتعلة على غير جبهة والتي تداخلت واشتبكت فيها مصالح ودور الرياض وطهران سابقاً، كما مصير مشروع التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني ، والذي خطا بسرعةٍ بدا معها وكأن وصوله الى المحطة الأهم خليجياً ، الرياض، بات حتمياً وقريباً .والقمة عقدت في وقت تتحضر الرياض للعب دور في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا وتستضيف مفاوضات الأخوة الأعداء بين طرفي الصراع الدموي الخطير القائم في السودان، وقد كان لافتاً دعوة الرئيس الأوكراني "فلوديمير زيلينسكي" لحضور القمة وإلقاء كلمة في سابقة من نوعها ، حيث لم تدعُ القمة سابقاً طرفاً في صراع لاموقف عربي موحد منه، بل وتصطف أقطار عربية ضده في معركته مع الحليف الروسي، ما يؤكد أن الرسالة من استضافته سعوديةٌ بامتياز ، وهي تتجاوز حدود استرضاء الجانب الأمريكي الغاضب من حضور "الأسد"، لتؤشر على المكانة التي تضع السعودية نفسها فيها اليوم ، فهي إلى جانب نجاحها الذي يدلل على نفوذ وقدرة في جمع كل العرب حول طاولة واحدة رغم التناقضات والتباينات ، وإلى جانب قدرتها على فرض عودة سورية وحضور رئيسها رغم رفض البعض ، كما حضور "زيلينسكي" بالاتجاه الآخر ؛ أوصلت السعودية رسالة دولةٍ وازنةٍ تمتلك القدرة والرغبة في تسخير العقبات والتوسط في ملفات كبرى كالحرب الأوكرانية.وباستثناء (مغادرة) أمير قطر قبل إلقاء كلمته فضلاً عن الاستماع لكلمة "الأسد" ، ومظاهر استمرار الخلاف مع "ابوظبي" حول ملفات عدة ، وغياب الرئيس الجزائري، توّجت القمة في شكلها ومخرجاتها جهود الرياض في تقديم نسخة مختلفة ، فكانت كذلك.وفيما تحسب مغادرة أمير قطر عليه لا على السعودية ، ويتشارك الطرفان "السعودي والإماراتي" المسؤولية في تعاظم الخلاف بينهما ، يُحسب على الرياض غياب الرئيس الجزائري ، فالقطر الجزائري المهم والوازن والذي كان يرأس القمة لم يتم إشراكه في ملفات تحضيرية مهمة كملف عودة سورية مثلاً ، كما أن "الملك السعودي" لم يحضر القمة في الجزائر ، وكأن الرياض أرادت الاستفراد بمظهر القادر الوحيد و انفراد قمتها بكل ماهو مختلف وساطع .في الشكل ساهم التحضير المسبق المكثف وضبط كل التفاصيل ، حتى الإجرائية منها" وعلى رأسها تحديد سقف الخطاب ضمن خمسة دقائق في خفض منسوب الشعبويات والخطب الرنانة والرسائل المشفرة ، فسمعنا خطابات مكثفة واضحة حمل معظمها عناوين جديدة ترخي بظلال أمل حول فهم عربي مختلف ، يستوعب مفردات المرحلة ويستلهم العبر .وفي حين تميّز خطاب الجزائر وتونس وتطوّر خطاب الأردن والعراق والسعودية ؛ فقد كان خطاب الرئيس السوري الأكثر لفتاً ، "الأسد" قدّم من جديد درساً في القدرة على المضي وسط حقول الألغام فوصّف الواقع وذكّر بمتطلبات النهوض دون أن يجامل في ثوابت "سورية" أو ينسى التأشير بوضوح على مكامن التهديد وأخطاء ارتكبت بحق سورية والعمل العربي ، مؤكداً على المراجعة وتطوير الآليات وضرورة الانطلاق من الرؤى والأهداف المشتركة والسياسة الموحدة في سبيل التطوير الحتمي المفترض لمنظومة عمل الجامعة العربية، وهو ماجاء في كلمة أكثر من طرف في القمة ، قد يكون أبرزها السعودية والجزائر والعراق.في المضمون جاء البيان الختامي مختلفاً ايضاً ، سواءً عبر تصدّر القضية الفلسطينية بنوده او عبر تراجع لغة الاسترضاءات والمفردات الفضفاضة والعنتريات المعتادة لصالح وضوح أكبر في الرؤية ورغبة ملموسة في تقديم فهم مختلف ومغادرة لغة العداء والاستعداء ، حيث غابت مفردات الإملاء في البند المتعلق بسورية أو اليمن مثلاً ، وغابت مفردات الموقف المتشنج المنغلق تجاه مايحصل في السودان أو لبنان ، وكان واضحاً ان ثمة دروساً استخلصت من تجارب الماضي القريب، سواء لجهة مخاطر التدخل وضرورة احترام الخصوصية الثقافية والقيمية والسيادة أو لجهة الاعتبار من دروس الصراعات الداخلية وويلاتها، وصولاً إلى العلاقة بالجوار (ايران وتركيا).هذه النقاط وردت بوضوح ودون مواربة هذه المرة ، وبلغة سياسية تستند إلى حقائق على الأرض، بما يعني أنها قابلة لتصبح منطلقات في حال صحّت النوايا وأخلصت الجهود لتطوير الجامعة والذهاب بالعمل العربي المشترك نحو واقع جديد.ورغم ان الطعن في التعويل كثيراً على تصدّر القضية الفلسطينية بنود الاتفاق جائز جداً لجهة سقف الموقف الرسمي العربي من الصراع أصلاً، فضلاً عن غياب أي ذكر او دعم للمقاومة وحق الفلسطينيين فيها ، فإن للبند أهمية وازنة من زاوية أخرى ، فالقمة جاءت بعد ان شاعت أجواء تقارب خطير بين الكيان وأقطار عربية بلغت حد توقيع اتفاقيات والبحث الجاد في خلق تحالف يكون الكيان محوره، وبعد مخاوف من انجرار "الرياض" نحو هذا التوجه ، فجاء البيان ليكبح هذا المسار قليلاً ويضبط موقف الرياض منه بمعيار الموقف العربي المشترك وتحت سقف واضح لحل القضية الفلسطينية ، وإن لم يكن الحل العادل الذي لانرتضي سواه ؛ تحرير فلسطين.
ولايقل أهمية أن يخصص البيان جزءً وازناً منه للحديث في التنمية والتضامن والمشاريع او المبادرات التي ، وإن وضعت في عهدة الرياض ، ستكون أول اختبار للمقاربة السعودية الجديدة تجاه العمل العربي المشترك وكرئيس دوري للجامعة ، وحتى كدولة وازنة صاحبة مشروع ، وستكون هذه العناوين أولى الروافع المناسبة لتأطير شراكة عربية وبناء علاقة تكاملية على ارضية سليمة تغادر الشعبويات وتعتمد الفرص وعوامل التكامل وتترجم العناق والابتسامات إلى خطوات عملية ترتقي بالعمل وتستفيد من تجارب كثيرة في العالم أفضت إلى اتحادات وأطر جمعت أطرافاً لايربطهم مايربط أقطارنا وشعبنا العربي الواحد من وحدة الثقافة واللغة والقيم ، فضلاً عن وحدة الدم والمصير.نجحت الرياض اذاً في كشف الستار عن دولة جديدة ، لكن تجارب الماضي وفوضى الواقع تجعل الحذر أولى من التفاؤل او التشاؤم .فنحن وإذ نتمنى أن يتعاظم دور ونفوذ دولة عربية كبيرة ووازنة كالسعودية ،و نتمنى استبدال علاقات المنطق السائد بعلاقاتٍ تبنى على التشارك والتنمية وتبادل المصالح والاستثمار في المتاح وعلى قواعد مصلحية ، لكن على أن لايقفز ذلك فوق اعتبارات الأمن القومي العربي ومفاهيم العروبة ومصلحة الشقيق نحو الاستقواء او الاستخدام او انتهاج إدارة الأزمات والتناقضات بدلاً من حلها.هل نشهد عصراً عربياً جديداً ، بحلوه ومرّه ، انطلاقاً من الاعلان عن المشروع الطموح الذي بدأته المملكة السعودية الجديدة؟
ويبقى ان ننبّه من أن الكيان الصهيوني المتربص سيعمل بكل جهد وبأشكال مختلفة لضرب او تعطيل الدور المهم والطبيعي الذي تسعى نحوه السعودية في المنطقة والشرق الاوسط، والذي نراه قادما لا محاله بحكم التحولات في العالم، كيف لا وهو الساعي لإعادة إنتاج دوره على حساب السعودية وأمنها ودورها المنتظر.

















