لم يكن الاصطفاف الحاد الذي واكب خبر الإنزال الجوي – الذي نفذه سلاح الجو الملكي في إطار جهود الأردن لإغاثة الأشقاء المحاصرين في قطاع غزة – أول عهدنا بالإرباكات التي تواكب الأحداث المفصلية التي تتناقلها وسائل الإعلام ووسائط التواصل، وقد لايكون الأخير . وفي حين أفردنا قبل أيام نافذةً خاصة للتحذير من أصوات التشكيك عبر تقديمنا سردية تعتمد الاستدلال السليم ؛ نطرق في هذه النافذة باب الرواية الرسمية بالعموم ، لجهة موثوقيتها في الشارع وأسباب عجزها عن إقناع الغالبية في ظروفٍ تفرض أكثر من أي وقتٍ مضى بناء الثقة وتمتين المصداقية والمرجعية.
يقول معنيون أن الثقة والالتفاف حول الرواية الرسمية ضرورة وواجب في كل دول العالم ، وسبيل لابد منه لحماية البلاد وتمتين جبهتها الداخلية، وأن مساعي التشكيك الممنهج وفوضى مواقع التواصل واضطرار الجانب الرسمي لتقديم روايته للأحداث بذات النمط التقليدي المعتاد باعتباره أساساً للمنطق الرسمي المعمول به، كلها أسبابٌ لحالة الاصطفاف التي تواكب كل حدث مهم على الساحة الأردنية، وأن الرواية الرسمية تحظى بثقة وازنة وأن نسبة أصوات المشككين ضئيلة لا وزن لها انطلاقاً من حقيقة أن شعبية الدولة وخياراتها تتجاوز حدود الأمان، سيما وأن الدولة ابتكرت أدوات ووسائل إعلام شبه رسمية مساندة تحاكي معظم الأذواق وتسد أي ثغرة قد يتركها النمط التقليدي المعتمد عالمياً في مقاربة الإعلام والخطاب الرسميين، فضلاً عن تعزيز دور (المؤثرين) في إيصال الحقائق وتعزيز وصول الصورة بكل مايمكن من وسائل تلبي تطورات الاعلام المجتمعي والرقمي . فيما يرى آخرون أن تراجع الثقة بالرواية الرسمية يعود بالدرجة الأولى إلى غياب استراتيجية إعلامية وطنية تعتمد لغة الناس وفهمهم بعيداً عن الوصاية على وعيهم أو الإقصاء أو الإنكار المسبقين لأية روايات أخرى ، سيما وأن وسائل الاعلام الحديث وثورة التكنولوجيا خلقت مزيجاً عجيباً من سرعة الوصول الى الخبر أو المعلومة والقدرة الهائلة على تحريفها أو خلق جدل حولها، في الوقت الذي تستمر المقاربة الرسمية بانتهاج الإعلام الدفاعي التلقيني المتثاقل، ناهيكم عن تغييب بعض الأحداث عن الإعلام الرسمي الذي بات أقل متابعةً بفعل جملة من الأسباب قد يكون ابتداع فكرة الإعلام الموازي – الذي حوّل الرسمي إلى رديف وأضرّ بقدرته واتساعه أو باحتفاظه بموقعه كمرجعية – أحد مسببات المشكلة فيها لا الحل، سيما مع الفرق في الاهتمام والتمويل لصالح البديل عوضاً عن الأصيل ، وهو مايضعه متابعون في إطار التراجع العام لكل ماهو رسمي لصالح بدائل خاصة أو شبه حكومية تحظى بالدعم والاهتمام وتضعف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة وتغيّب بعضها عن مَشاهد الصورة، وحيث أننا مسلّمون بمنطق أن مؤسسات الدولة كلٌّ متكامل فإن أي اختلال أو تراجع في موثوقية أي مؤسسة أو في كونها مرجعية مطلقة سينعكس سلباً على التصوّر المجتمعي تجاه الحكومة بمجمل مؤسساتها.
قيل فيما يقال في الأمر أن ” الإعلام وجه المجتمع ، تطفو على سطحه مساحيق تجميل تضيفها الدولة”. أي أن الإعلام الرسمي هو المرجع المفترض والمعبّر عن الدولة والمجتمع ، دون إنكار حتمية أن تكيِّفَ الدولة صيغَهُ ومساراته بما يحقق مصلحة البلاد والعباد ، ودون أن يجنح نحو مايخلق غربةً بين الناس وإعلامهم أو السردية الرسمية المعتمدة ، كما أن إعلام الحقائق والمعرفة الذي يراعي السرعة والشفافية ركنٌ أصيل في بناء واقعٍ إعلامي يحظى بالشعبية والمصداقية، ويحصّن المجتمع من عبث العابثين واجتهادات ا(لمؤثرين!) أو الباحثين عن الشهرة والاستثمار الشخصي .
لاشك أنه من الإجحاف إنكار الجهد والإنجاز الذي تحقق ويتحقق على مستوى الإعلام الرسمي الأردني، سيما وأن الاستعصاءات كثيرة ، لكن ذلك لايعني أن لاندق ناقوس الخطر لجهة تراجع مكانة الإعلام الرسمي كمرجعية مطلقة، سيما ونحن نعيش ظروفاً خطيرة لاتقف عند حدود حرب الإبادة التي يشنها العدو على أهلنا في قطاع غزة ، بل تتجاوزه لتشمل واقع القضية الفلسطينية بل والمنطقة، التي تقترب شيئاً فشيئاً من مفترقات مشرعةٍ على كل السيناريوهات والمخاطر والمحاذير ، مايعني دون أدنى شك ضرورة تمتين البيت الداخلي وتعزيز الالتفاف حول الدولة وخياراتها الصعبة في مواجهة ماهو قادم من مخططات، وبما يضمن تسهيل بث أجواء المسؤولية الوطنية المنطلقة من كفة المهام أو الواجبات التي تقابل كفة الحقوق والمكتسبات ضمن ميزانٍ لايصح بأي شكل أن يغيب أو تتوه مفرداته أو يتعذّر بثها في الأوساط الاجتماعية كافة.
لم يسجَّل يوماً أن تاه الأردنيون عن واجباتهم أو تخلوا عن مهامهم الوطنية ، لكن ذلك يستدعي بالضرورة أن يدركوا بالملموس المقنع أين يقفون وفي أي مسار يفترض أن نمضي عبر مكاشفةٍ واضحة تخاطب الناس بلغتهم ، دون استنادٍ مسبق إلى مسلمات او فرضياتٍ تفسر حجم الثقة والقناعة بمنطق رغباتي، فشعبنا واعٍ ومتفاعل مع الأحداث ويطوّر قراءاته وقناعاته وفقاً لمدخلات وازنة مقنعة يجب أن تكون الرواية بل والمقاربة الرسمية في مقدمتها ، إن لم نقل متفرّدةً في التأثير فيها ، سيما مع تطور قدرة الآخر المتربص على التضليل والتشويه وخلق السرديات والروايات المضللة المزيفة بأشكالٍ مبتكرة يصعب كشف حقيقتها بسهولة، وقد لاتمتلك كل مكونات المجتمع وسائل التحقق منها او مواجهتها والتحصّن من مخاطرها، وهنا لابد من القول أننا نقدّر التوجه الحكومي لإفراد مساحة وازنة لمفردات الاستدلال المعلوماتي السليم ومواجهة حروب التضليل والتزييف الإعلامي في مناهج التعليم وتخصصاته، وإن كنا نأمل أن تتطور العملية وصولاً لأن تصبح ورشة عمل وطنية شاملة ، تعطى فيها الفرصة لأصوات يتم اختيارها على قاعدة الاختصاص والمعرفة والتجرية والإخلاص ، لا على قاعدة الاسترضاءات أو (التسحيج) أو التسليم لشعبية من يوصفون بالمؤثرين دون تدقيق، في مشهدٍ بات يحاكي “وضع الحصان أمام العربة” بدل العكس.
في كل الأحداث الخطيرة ، وبعضها لازال ماثلاً أمامنا بتداعياته ومآلاته كان الإعلام والسيطرة على الرأي العام عبر تقديم روايةً محكمة مقنعة أحد أهم أسلحة المتفاتلين ، فكان أن دُمرت أوطانٌ وغُيّرت معادلات لمجرد غياب قدرة هذه الدولة أو تلك على تقديم روايةٍ ورؤيةٍ مقنعة سليمة تكبح الهجوم المضاد، وترسم بوضوح ملامح المشروع الوطني وتحدّد المهام والمسؤليات…. وما أحوجنا اليوم لأن نختبر قدرتنا على ذلك بمسؤولية وطنية واستنفار حقيقيّين.