بداية، هناك مسلّمات لا بد من الاتفاق حولها، فأي خطوة إيجابية تصبّ في صالح الاقتصاد الأردني وتجعله أكثر قدرة على السير قدما في مسيرة الإصلاح والاستقرار مرحب بها وهي محل تقدير وثناء، ولا يمكن استثناء ما قامت به وكالة موديز بترقية التصنيف الائتماني للمملكة من هذه القاعدة. ربما ما يثير الجلبة في هذا السياق، الحماس والاندفاع الحكومي تجاه هذه الترقية، وربما بشكل أكبر ما تبعها من إشادات وتحليلات، ولا أعلم إن كان ذلك متصنعاً ومبرمجاً أم تصرفا فطريا مبنيا على قناعات ذاتية؟. فإن كان الأخير هو الدافع، فهو بالفعل إشكالية حقيقية ينبغي التوقف عندها ملياً. فالترقية التي منحتها موديز كانت على نحو محدود للغاية، وأبقتنا ضمن مجموعة الدول عالية المخاطر جنباً إلى جنب مع دول تعاني من مشاكل اقتصادية هيكلية وعجوزات مزمنة في موازناتها العامة. كما أن الترقية ذاتها صاحبها تخفيض للنظرة المستقبلية للاقتصاد الأردني، من الإيجابية إلى المستقرة، وهذه حقيقة تجاهلتها الحكومة في سياق احتفالها بالتصنيف الجديد. وقد يتساءل البعض أيضا، ما هو الذي رأته «موديز» ولم تره «فيتش» التي أبقت على تصنيفها السابق للمملكة بعد مضي يومين فقط من تقرير موديز؟.ما يثير الريبة حقا، أن الحكومة أصبحت تعتقد أو تريدنا أن نعتقد، بأنها تمكنت من وضع الاقتصاد الأردني على المسار الصحيح، وانطلقت لتُسمعنا «كلمات ليست كالكلمات»، بل وقد وصل بها الحد لتصف هذه الترقية الطفيفة بأنها «ستؤدي لتعزيز استقرار المستوى المعيشي للمواطن الأردني وستؤدي إلى خفض كلفة الدين العام الأردني للتمكن من الاستمرار بتعزيز فرص الأردنيين في الازدهار عبر فرص أفضل في التعليم والصحة والبنية التحتية»!. ليس لدي أدنى فكرة إلى أي نظرية اقتصادية تستند إليها كل هذه الفُرص المبعثرة؟ فتخفيض المديونية بحد ذاتها، لن يكون قادرا على استيعاب كل هذه الأهداف الحالمة، فكيف لترقية محدودة أن تقوم بذلك؟.دعونا نستعرض السياسة المالية وبعيداً عن أبعادها الاقتصادية والاجتماعية، فهذه مرحلة متقدمة، ونتجاوز العجز وتصنيفاته، دعونا فقط نتعامل مع أرقام المديونية التي تعتبر الحصيلة النهائية لأدائها. فخلال أقل من أربع سنوات، ساهمت الحكومة الحالية بنحو ربع المديونية العامة المتراكمة منذ نشـأة الدولة الأردنية. وليس هذا فقط، فهذه المديونية تمثل الجانب الأكثر عبئاً بمعدلات الفوائد المترتبة عليها وضغطها المحتمل على ميزان المدفوعات في المستقبل كون جانب كبير منها مول بالاقتراض الخارجي. ومعدل اقتراضها السنوي هو الأعلى على مدار العقود الثلاثة الماضية. وربما يكون اقتراضنا لهذا العام يسير بوتيرة أعلى من السنوات السابقة، بسبب صعوبة التحديات التي تواجه المملكة حاليا والتي لم يتبين أثرها المالي كون النشرة المالية الخاصة بالأشهر الأولى من هذا العام لم تصدر بعد. هذا فضلا عن خدمة الدين العام التي شكلت في العام الماضي نحو 16 % من النفقات الحكومية، وهي النسبة الأعلى منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي، لتعادل بذلك ما يزيد على ثلاثة أضعاف مخصصات الحماية الاجتماعية ودعم السلع، ونحو70 % من فاتورة الرواتب والأجور. كل هذا ونتحدث عن تجربة يحتذى بها. نحتاج لمؤشر واحد، فقط لا أكثر، يبدد هواجسنا.ويضاف إلى ذلك، الأداء الاقتصادي الذي ما يزال متواضعا، والذي إن استمر على هذه الوتيرة، فربما يتجاوز معدل البطالة حاجز 30 % بحلول نهاية العقد الحالي، أي عندما تشارف رؤية التحديث الاقتصادي على الانتهاء، وهي التي عولت على الحكومة المساهمة ولو بقدرٍ بسيط في المليون وظيفة التي تستهدف استحداثها. فمعدل البطالة اليوم عند مستويات مقلقة بحدود22 % وهو بين الأعلى عالميا، هذا بدون الأخذ بعين الاعتبار العمالة المُثَبَّطة عن العمل التي فضلت التوقف في البحث عنه لتضاؤل فرصه. ولم يتسن الاطلاع على نتائج مسح فرص العمل المستحدثة خلال العام الماضي لأن تقريره لا يزال رهين الأدراج.لغاية اليوم، ليس لدينا إستراتيجية واضحة وعملية للدفع بصناعتنا الوطنية وقطاعاتنا الواعدة نحو الأمام، وتمكينها من التفاعل بإيجابية مع المستجدات العالمية المتسارعة. وأصبحنا نتعامل مع التطورات التي تطرأ على الميزان التجاري إعلاميا، تارة بتسليط الضوء على انخفاض قيمة المستوردات التي لا يحركها سوى انخفاض أسعار النفط العالمية، أو على ارتفاع قيمة الصادرات عندما تشهد صادراتنا من المواد الخام ارتفاعاً في أسعارها العالمية. فأي تحسن في الميزان التجاري مردّه إلى هذه الاعتبارات وليس لتدابير وسياسات فاعلة تتعامل مع عجزه المزمن.نعم السنوات الماضية كانت مليئة بالتحديات والصعاب، وبدلا من التعامل معها بسياسات وتدابير مبتكرة، انشغلنا بتفاصيل شكلية. فهل تدخل مديونية الضمان ضمن الدين العام أم لا؟ وهي بالمناسبة ينطبق عليها كل مفاهيم المديونية ومن ضمنها الفوائد المستحقة عليها، وانشغلنا بجدلية اعتماد العجز الكلي أم العجز الأولي!، وبتزيينهما بالسلف والمتأخرات التي لا تدخل في أي منهما. ما ينبغي أن نتفق عليه جميعا أنه لا يمكن الاستمرار بسياسة ترحيل التحديات والتلكؤ في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي بالأهداف التي جاءت بها. ما يعنينا النتائج على أرض الواقع، وما عدا ذلك فهو «مجرد تفاصيل» وشعبويات لا تسمن ولا تغني من جوع. علينا ألا نبالغ في التعويل على إنجازات شكلية تخفي وراءها تلكؤا في تنفيذ برامج وإصلاحات فعلية.