+
أأ
-

ادْمِج الطبيعة في التعليم:ستيفين كيلرت

{title}
بلكي الإخباري يقضي الآن الطفل التقليدي في الولايات المتحدة الأمريكية %90 من وقته داخل جدران المنزل، فالطفل الأمريكي الذي يتراوح عمره ما بين سنتين وخمس سنوات، يشغل وقته بالإعلام الإلكتروني لمدة زمنية متوسطة تزيد على 30 ساعة أسبوعيًّا، أما الطفل الذي يتراوح عمره بين 8 و18 عامًا، فيصل هذا المعدل لديه إلى 52 ساعة. ويخصِّص غالبية الأطفال 30 دقيقة يوميًّا لممارسة أنشطة ترفيهية عشوائية خارج جدران المنزل، برغم أن هذه المدة منذ جيل سابق كانت تتجاوز الأربع ساعات. ويخاف كثير من الآباء والأمهات من السماح للأبناء بأن يلعبوا خارج المنزل بمفردهم، كما ينظرون إلى التعلم على أنه عملية تقليدية تحدث داخل المنزل. هناك دليل تتصاعد وتيرته في دراسات أمريكية وأوروبية وأسترالية، مفاده أن انفصال الطفل عن الطبيعة قد يتسبب في قصور بدني، وعاطفي، وعقلي في تعليم الطفل وتطوره. وهذا الدليل استعرضه ستيفين موس في تقريره الذي نُشر في عام 2012، تحت عنوان «الطفولة الطبيعية» Natural Childhood، لصالح جمعية ناشونال تراست البريطانية، حيث يذكر أنه عندما يقضي الطفل الصغير وقته في اللعب بحُرِّيَّة داخل بستان من الأشجار، أو تحت شجيرات الحديقة، فهو يشعر بفيض من الاستثارة الحركية، والسمعية، والبصرية، والحسية. ومثل هذه التجارب تعزز لديه مجموعة كبيرة من الاستجابات التكيفية، التي تثير عنده طاقات الاستطلاع، والرصد، والتساؤل، والاستكشاف، وحل المشكلات، والإبداع. فالطفل الذي يشيِّد سدًّا، أو عرينًا، يدرك بالتبعية تدرُّج المستويات، والقوى، والمواد، وسلوك مكونات معينة، مثل الخشب، والماء، وخواص البيئة المحلية. «تظهر مركزية الطبيعة في تعلُّم الأطفال مع نشأتنا كجنس بشري». تَظهر مركزية الطبيعة في تعلُّم الأطفال مع نشأتنا كجنس بشري، ففي ما يزيد على %99 من تاريخنا التطوري، نلحظ تأقلُم البشر، استجابةً لقوى الطبيعة في المقام الأول. كما أصبحنا نميل إلى أن نكون جزءًا من الطبيعة، وتُسمى هذه النزعة (بيوفيليا). وإذا ازدهرت داخلنا تلك النزعة، فستلزمها التجربة، والرعاية. فالاعتماد على التعلم هو منبع الابتكار الهائل لجنسنا البشري، إلا أنه يفتح لنا أيضًا احتمالات التصرف بأساليب تتناقض مع منافعنا الذاتية الحيوية طويلة المدى. أما فيما وراء فَهْمنا المبهم بأن اللعب «خارج المنزل» مفيد للأطفال، فنحن فقط في أول الطريق نحو استكشاف دور الطبيعية في عملية التعلم والتطور. وعلى الرغم من أن الأدلة العلمية ما زالت محدودة، إلا أن نتائج بعض الدراسات المتعلقة بالرعاية الصحية، والتعليم، والعمل، والأنشطة الترفيهية، والمجتمع المحلي، تشير إلى أن الاحتكاك مع الطبيعة أمر حيوي لنمو الطفل، وأن هذا الاحتكاك قد لا يعوضه أي بديل آخر. فعلى سبيل المثال.. تبيِّن دراسة شملت تسعين مدرسة لأطفال تتراوح أعمارهم بين سن 5 و12 عامًا بأستراليا، أن قضاء الوقت في الطبيعة يحسِّن من ثقة الأطفال في أنفسهم، ومن قدرتهم على العمل مع الآخرين، ومن مشاعر الاهتمام، ومن علاقاتهم بأقرانهم، ومن تفاعلهم مع الكبار (C. Maller and M. Townsend Int. J. Learn. 12, 359–372; 2006). إنّ الانغماس في هذا الثراء الحسي والمعلوماتي، والطبيعة الديناميكية للغابات والشواطئ والمروج، يستثير استجابات التعلم الأساسية، مثل كشف الهوية، والتمييز بين الأشياء، والتحليل، والتقييم. ومن ثم، يميز الطفل الأشجار الكبيرة عن مثيلتها الصغيرة، ونباتات المنزل عن نباتات الحديقة، والسرخس من الكروم، والنمل من الحشرات الطائرة، والبط من الطيور المغردة، والمخلوقات الحقيقية من الأخرى الخيالية. ويطوِّر الأطفال مهارات كَمِّيَّة من خلال حساب عدد الحشرات والزهور، حيث يكتسبون معرفة بالأشياء، من خلال لعبهم على العشب والطين، ويدركون الطبيعة الفيزيائية للأشياء بالفطرة، من خلال معرفة الطريقة التي تتفاعل بها مياه الجدول مع العوائق والمسارات المفتوحة، ومن خلال التعرف على التلال، والوديان، والبحيرات، والأنهار، والجبال، حيث يتعرفون على الأنماط الجيولوجية. وبالتعايش مع حيوات أخرى، بدءًا من حياة أشجار الخشب الأحمر، حتى حياة القنافذ، يقفون أمام منبع لا ينضب من حب الاستطلاع، والتعلق العاطفي، وحافز التعلم. ويكتسب الأطفال مهارات التأقلم مع الظروف وحل المشكلات، عن طريق التكيف مع المتغيرات الدائمة في الطبيعة، حيث إن عالم الطبيعة غالبًا لا يمكن التنبؤ بمتغيراته. يستعرض آلان إيورت في كتابه الكلاسيكي الصادر في عام 1989، تحت عنوان «مغامرة الهواء الطلق» Outdoor Adventure Pursuits، دراسات عن الأطفال الذين شاركوا في برامج الطبيعة. وقد توصَّل إلى أن هؤلاء الأطفال سألوا عددًا أكبر من الأسئلة، مقارنةً بالآخرين، وأنهم تميزوا في حل المشكلات. وفي دراسة، شارك فيها 262 طفلًا، أعمارهم ما بين 3 و12 عامًا، ويعيشون في أحياء فقيرة بمدينة شيكاجو في ولاية إلينوي، تبيَّن أن الأطفال يلعبون بصورة أكثر إبداعًا بعد قضاء وقت في أحضان الطبيعة (A. Faber Taylor et al. Environ. Behav. 30, 3–27; 1998)، لكنّ المجتمع المعاصر ـ مع الأسف ـ شيَّد حواجز تَحوُل بين الطفل واحتكاكه مع الطبيعية. فعلى سبيل المثال.. أصبح مَسْكن الطفل، ومكان تعليمه، وبيئة ترويحه عن نفسه، تعج بالأشياء المصطنعة، وتخلو من الأشياء الحسية. ولذلك.. هناك حاجة إلى صياغة نموذج جديد، بمعنى أن يكون هناك تصميم (بيوفيلي) يشجع على الاندماج مع الطبيعة، حيث إن هذا النهج في تصميم المباني والمناظر الطبيعية سيشجع على الاحتكاك المباشر وغير المباشر مع الطبيعة، وعلى الدخول في تجربة مكان يثير مشاعر الألفة تجاه عالَم الطبيعة. من الممكن تصميم تجربة احتكاك مباشر مع الطبيعة، أي العيش وسط الضوء، والهواء، والحيوانات، والمياه الجارية، والمناظر الطبيعية، وذلك ـ على سبيل المثال ـ من خلال الوجود الكثيف للنباتات داخل المباني وخارجها، والتحكم المتقن في تدفق الهواء ودرجة الحرارة والضغط، والاهتمام بالمناظر الخارجية. ومن الممكن إنتاج تجربة احتكاك غير مباشر مع العالَم الحقيقي، عن طريق أعمال فنية مستوحاة من الطبيعة، مثل استخدام مواد معينة، كالأخشاب، والصوف، وإنتاج تصميمات تحاكي نمط الطبيعة. وهذه التجربة من الممكن أن يشكلها أيضًا تصميم مساحات محميّة ذات مناظر واسعة، وتَواصُل بصري يمتد حتى الخارج، فضلًا عن تخصيص مناطق حافلة بالمظاهر الطبيعية، شريطة أن يتم ذلك بصورة منظمة ومفهومة. إنّ التصميم البيوفيلي له القدرة على إحداث تحوُّل في مدارس الأطفال، ومناطق الألعاب الخاصة بهم. وهناك نموذج حديث على ذلك، يتجسد في مدرسة نيو ساندي هوك الابتدائية في مدينة نيو تاون بولاية كونيتيكت، الجاري تشييدها في الموقع الذي شهد وفاة 20 طفلًا بطلقات نارية في عام 2012. وكانت المدرسة القديمة في نظر الأغلبية بمثابة بناء قاحل، غير جذاب، أما المدرسة الجديدة، التي عملتُ فيها مستشارًا للتصميم، فتحتوي على إضاءة طبيعية ممتدة في جميع الأرجاء، ومواد طبيعية، ومناظر خارجية، وزروع، وساحات منتشرة، وأراض رطبة. ومن ثم، تشجع هذه المدرسة ـ التي تتسم بالتصميم البيوفيلي ـ على التعلم، بل تؤكد على عودة الحياة من جديد إلى موقع شهد خسارة مفجعة في الأرواح. إن عالَم الطبيعة ليس مجرد خلفية ديكوريّة، أو شيء جمالي يمكن الاستغناء عنه. والتفاعل مع هذا العالم أمر يحقق مصلحة ذاتية أصيلة، ويحمي من مستقبل يعرِّض سلامة جنسنا البشري على المدى الطويل لخطر لا يقل عن الأخطار الجلية التي يعرِّضنا لها الفقر والمرض.