المتنبي و الحب

بلكي الإخباري كتبت لميعة عباس عمارة
مطالع المتنبي الغزلية جميلة انسجاماً مع كل شعره منها:
أتراهـــا لكثــــــرة العشـــاق تحسب الدمع خلقةً في المآقي
أو قوله الهندسي، وعليك أن ترسم نقطة هي مركز الدائرة أي قلب المتنبي، ومحيط الدائرة هو الفلك الذي يدور فيه العذل واللوم، بينما في مركز الدائرة يستقر الحب، لا يمسه اللوم:
عذلُ العواذل حول قلبي التأئه وهوى الأحبة منه في سودائه
ومن المطالع الغزلية:
كم قتيلٍ كما قُتلتُ شهيدُ ببياض الطلى وورد الخدود
والعشاق كلهم شهداء، سنَّ هذه السُنّة جميلُ بثينة. شكوى المتنبي من الحب فيها مرارة حقيقية، وربما عنى بالأبيات حبيباً وهمياً أو سيف الدولة أو أحباء مفترضين يقول:
أكيداً لنا يا بينُ واصلتَ وصلنا فلا دارُنا تدنو ولا عيشها يصفو
أُرددُ: ويلي لو قضى الويلُ حاجةً وأُكثِرُ لهفي، لو شفى غُلَّة لهفُ
أو قوله:
وقد يتزيا بالهوى غيرُ أهله ويستصحب الإنسان من لا يلائمُهْ
بليتُ بلى الأطلال إن لم أقف بها وقوفَ شحيحٍ ضاع في الترب خاتِمُه
حبيبٌ كأنّ الحسنَ كان يحبه فآثره، أو جار في الحسن قاسِمُه
إن لم يكن المتنبي عاشقاً فهو لا شك صانع ماهر، ومثل هذا قوله:
كأنَّ الحزنَ مشغوفٌ بقلبي فساعةَ هجرها يجد الوصالا
وقوله الموجع:
إنّ الذي خلَّقتُ خلفي ضائعٌ مالي على قلقي عليه خيارُ
وقوله:
أما تغلط الأيامُ فيَّ بأن أرى بغيضاً تُنائي أو حبيبا تقرّبُ؟
وقوله:
عزيزُ أسىً مَن داؤهُ الحدقُ النجلُ عياءً به مات المحبّون من قبلُ
فمن شاء فلينظر إليَّ فمنظري نذيرٌ إلى مَن ظنَّ أنّ الهوى سهل
وما هي إلا لحظةٌ بعد لحظةٍ إذا نزلت من قلبه رحل العقل
جرى حبُّها مجرى دمي في مفاصلي فأصبح لي عن كلِّ شَغلٍ بها شغل
كانَّ رقيباً منكِ سدَّ مسامعي عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
وقوله:
لكِ يا منازلُ في القلوب منازل أقفرتِ أنتِ وُهنَّ منكِ أو اهلُ
اللاءِ أفتكُها الجبانُ بمهجتي وأحبُّها قربا إلي الباخــــــل
كم وقفةً سجرتك شوقاً بعد ما غُريَ الرقيبُ بنا ولجَّ العاذل
للهوِ أونةٌ تمرّ كأنّها قُبلٌ يُزوِدها حبيبٌ راحـــــــل
وقوله:
أجدُ الجفاءَ على سواكِ مروءةً والصبرَ إلا في نواك جميلا
وأرى تدللَكِ الكثيرَ مُحبباً وأرى قليلَ تدلّلٍ مملولا
المتنبي يصف النساء فيحسن الوصف، والوصف غير الوجد وغير العشق، وكما أسلفنا يستعمل المتنبي أحياناً كثيرة التشبيهات المألوفة المعروفة ويسبغ عليها هالة من البلاغة يقول:
كم قتيل كما قُتلت شهيد ببياض الطلى ووردِ الخدودِ
وعيون المها ولا كعيونٍ فتكت بالمتيم المعمود
عمرَك اللهَ هل رأيت بدوراً طلعت في براقعٍ وعقود
رامياتٍ بأسهمٍ ريشُها الهُدب تشقُّ القلوب قبل الجلود
كلُّ خمصانةٍ أرقُ من الخمر بقلب أقسى من الجلمود
ذاتُ فرع كأنما ضُرب العنبرُ فيه بماءِ وردٍ وعود
حالكٍ كالغداف جثلٍ دجوجيٍّ أثيثٍ جَعدٍ بلا تجعيد
تحمل المسكَ عن غدائرها الريحُ وتفترُّ عن شنيب بَرود
وقوله:
لبسنَ الوشيَ لا متجمّلاتٍ ولكن كي يَصُنَّ به الجمالا
وضفَّرنَ الغدائرَ لا لحسنٍ ولكن خِفنَ في الشَعَرِ الضلالا
وقوله أيضاً في وصف النساء:
مَن الجآذرُ في زيّ الأعاريب حمرَ الحلى والمطايا والجلابيبِ
التي منها:
حسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ وفي البداوةِ حسنٌ غيرُ مجلوب
والمتنبي يصل به وصف الحب حد البكاء حين يقول:
متلاحظيَن نسحُّ ماءَ شؤوننا حذراً من الرقباء بالأكمام
ولا شك في أنه لم يبك يوماً ولا ستر دموعه بأكمامه حذر الرقيب، هكذا نحس نحن حين نقرأه، ولكن الشريف الرضي حين أخذ هذه الصورة في رثائه لأمه وقال:
كم عبرة موهتها بأناملي وسترتها متجملاً بردائي
أبدي التجلّد للعدو، ولو درى بتململي لقد أشتفى أعدائي
فهذا بكاء حقيقي نحسه ونكاد نشارك فيه.
ديوان المتنبي شرحه في زمانه خمسون من نقاد العصر ومنهم ابن جنّي، ثم استمرت الشروح وعبارة: (شرحه وحققه فلان) على كل طبعة حتى يومنا هذا، فهل الشراّح قد شرحوا كل ما أراد المتنبي بيانه؟
بين يدي بيت من أبيــات المتنبي في وصف المرأة المترفة الرقيقة الجسد، راجعت شرحه في ما يتيسر بين يدي في أمريكا من المراجع، وهو ديوان المتنبي «العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب» للعالم العلامة اللغوي الشاعر المشهور الشيخ ناصيف اليازجي ـ دار القلم بيروت، لم يذكر السنة. طبعاً الشيخ راجع الشروح السابقة، والبيت الذي استوقفني شرحه هو:
حِسان التثني، ينقش الوشيُ مثله إذا مِسنَ في أجسامهن النواعم
التفسير في الهـامش ورد هكذا: (الوشي: نقش الثوب، ومسن: تبخترن، أي لنعومة أبدانهن إذا تبخترن ينقش الوشي في جلودهن مثل صورته). انتهى الشرح. وفي طبعة مطبعة هندية في الموسكي في مصر سنة 1343 هجرية 1923 ميلادية ورد البيت أيضاً بهذا الشكل، وبالتفسير نفسه. وفي مخطوطة قديمة وجدتها في مكتبة ديوان الكوفة، الذي كان معلما من معالم لندن رقمها ع 7/200 اسم المخطوطة «شرح ديوان أبي الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن المتنبي» المؤلف الشيخ الإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، ورد البيت بالخطأ نفسه (إذا مسنَ) وورد الشرح هكذا: أي لنعومة جلودهن يؤثر فيها الوشي مثل نقوشه إذا مشين متبخترات كما قال السريّ:
رقت من الوشي نعمة فإذا صافح منها الجسوم وشّاها
إنتهى الشرح من المصدر المذكور.
وعلى كثرة الشارحين وعلو مكانتهم أجد أن هذا البيت ورد فيه خطأ في الإملاء لم يصححه المتنبي في حينه، لأنه لم يطلع على الصورة والكيفية التي نسخ فيها البيت. ولا شك أن ليس بين شراّح شعر المتنبي امرأة واحدة، هذا ما يفسر لنا ورود الخطأ، فمن تجارب أي امرأة أن نقوش الرداء لا تنطبع على جسدها أثناء الحركة إنما تنطبع في حالة استقرارها، استقرار الخد على وسادة منقوشة يترك صورة الورود لساعات في خد المرأة الناعمة، حتى تركنا عادة النوم على الوسائد المطرزة. والثوب المطرز ينطبع على الجسد في الجلوس أو النوم بينما الشرّاح والبيت يشترط في أداة الشرط (إذا) أنَّ حسان التثني في حالة تبخترهن فقط ينقش الوشي على جلودهن مثله. وهذه صورة غير واقعية، وباعتقادي أن البيت ورد أصلاً هكذا:
حِسانُ التثني ينقش الوشيُ مثله إذا مسَّ من أجسامهن النواعمِ
وحدث الخطأ بالنقل فجاءت كلمة (مِسْنَ) بدل كلمة (مسَّ) والحرف (في) بدل حرف الجر من التي هي للتبعيض. عند ذاك يكون المعنى: حسان التثني ينقش الوشي صورته إذا مس أي جزء من أجسامهن النواعم، سواء أكنَّ في حالة النوم أو الجلوس أي بدون شرط، إنما الشرط وقع على (مسَّ) فقط. بينما في الشكل الوارد للبيت في الديوان يجعل شرطاً أن تتبختر الحسناء بالثوب حتى ينقش على جلدها رسومه، وإذا لم تتبختر لا ينقش، كذلك يجب أن يتبخترن بأجسادُهن النواعم (لا بأجسام غيرهن) ثمة خطأ آخر ينتج عن هذا الشرح الخطأ إذ لا يعقل أن يكرر المتنبي معنى ورد في أول البيت وهو (حسان التثني) ليضيف له الشراح (يتبخترن)، وهذا خطأ فاضح إذا كان قد فطن له أحد الشراح قبلي فهو ذكي، وإذا اتفقت كل الطبعات على الخطأ فعذرهم أنهم لا يفهمون المرأة، وإذا كان المتنبي قد كتبه كما نقلوه، فهو يؤيد رأينا فيه أنه ما عرف المرأة، وأصرُّ أن المتنبي لم يخطئ ولم يكتبه إلا بالشكل الذي قدْمتُه أي (إذا مسَّ من أجسامهن). ولا بأس أن أضيف مقالة لي نشرت في جريدة «الشرق الأوسط» عام 1996 من سلسلة مقالات نشرتها لي في الأشهر تموز/يوليو وآب/أغسطس وتشرين الأول/أكتوبر من تلك السنة. وهذا هو عنوان المقالة كما نشر: «خطأ مطبعي عمره ألف عام». نودع المتنبي باختصار وإعجاب ونظل نحبه ونفضله، وإن لم يفسح للحب مكاناً في قلبه المليء بالطموح، ونظل نعشقه وإن لم يعشق.
أديبة عراقية ـ كاليفورنيا
عن القدس العربي
مطالع المتنبي الغزلية جميلة انسجاماً مع كل شعره منها:
أتراهـــا لكثــــــرة العشـــاق تحسب الدمع خلقةً في المآقي
أو قوله الهندسي، وعليك أن ترسم نقطة هي مركز الدائرة أي قلب المتنبي، ومحيط الدائرة هو الفلك الذي يدور فيه العذل واللوم، بينما في مركز الدائرة يستقر الحب، لا يمسه اللوم:
عذلُ العواذل حول قلبي التأئه وهوى الأحبة منه في سودائه
ومن المطالع الغزلية:
كم قتيلٍ كما قُتلتُ شهيدُ ببياض الطلى وورد الخدود
والعشاق كلهم شهداء، سنَّ هذه السُنّة جميلُ بثينة. شكوى المتنبي من الحب فيها مرارة حقيقية، وربما عنى بالأبيات حبيباً وهمياً أو سيف الدولة أو أحباء مفترضين يقول:
أكيداً لنا يا بينُ واصلتَ وصلنا فلا دارُنا تدنو ولا عيشها يصفو
أُرددُ: ويلي لو قضى الويلُ حاجةً وأُكثِرُ لهفي، لو شفى غُلَّة لهفُ
أو قوله:
وقد يتزيا بالهوى غيرُ أهله ويستصحب الإنسان من لا يلائمُهْ
بليتُ بلى الأطلال إن لم أقف بها وقوفَ شحيحٍ ضاع في الترب خاتِمُه
حبيبٌ كأنّ الحسنَ كان يحبه فآثره، أو جار في الحسن قاسِمُه
إن لم يكن المتنبي عاشقاً فهو لا شك صانع ماهر، ومثل هذا قوله:
كأنَّ الحزنَ مشغوفٌ بقلبي فساعةَ هجرها يجد الوصالا
وقوله الموجع:
إنّ الذي خلَّقتُ خلفي ضائعٌ مالي على قلقي عليه خيارُ
وقوله:
أما تغلط الأيامُ فيَّ بأن أرى بغيضاً تُنائي أو حبيبا تقرّبُ؟
وقوله:
عزيزُ أسىً مَن داؤهُ الحدقُ النجلُ عياءً به مات المحبّون من قبلُ
فمن شاء فلينظر إليَّ فمنظري نذيرٌ إلى مَن ظنَّ أنّ الهوى سهل
وما هي إلا لحظةٌ بعد لحظةٍ إذا نزلت من قلبه رحل العقل
جرى حبُّها مجرى دمي في مفاصلي فأصبح لي عن كلِّ شَغلٍ بها شغل
كانَّ رقيباً منكِ سدَّ مسامعي عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
وقوله:
لكِ يا منازلُ في القلوب منازل أقفرتِ أنتِ وُهنَّ منكِ أو اهلُ
اللاءِ أفتكُها الجبانُ بمهجتي وأحبُّها قربا إلي الباخــــــل
كم وقفةً سجرتك شوقاً بعد ما غُريَ الرقيبُ بنا ولجَّ العاذل
للهوِ أونةٌ تمرّ كأنّها قُبلٌ يُزوِدها حبيبٌ راحـــــــل
وقوله:
أجدُ الجفاءَ على سواكِ مروءةً والصبرَ إلا في نواك جميلا
وأرى تدللَكِ الكثيرَ مُحبباً وأرى قليلَ تدلّلٍ مملولا
المتنبي يصف النساء فيحسن الوصف، والوصف غير الوجد وغير العشق، وكما أسلفنا يستعمل المتنبي أحياناً كثيرة التشبيهات المألوفة المعروفة ويسبغ عليها هالة من البلاغة يقول:
كم قتيل كما قُتلت شهيد ببياض الطلى ووردِ الخدودِ
وعيون المها ولا كعيونٍ فتكت بالمتيم المعمود
عمرَك اللهَ هل رأيت بدوراً طلعت في براقعٍ وعقود
رامياتٍ بأسهمٍ ريشُها الهُدب تشقُّ القلوب قبل الجلود
كلُّ خمصانةٍ أرقُ من الخمر بقلب أقسى من الجلمود
ذاتُ فرع كأنما ضُرب العنبرُ فيه بماءِ وردٍ وعود
حالكٍ كالغداف جثلٍ دجوجيٍّ أثيثٍ جَعدٍ بلا تجعيد
تحمل المسكَ عن غدائرها الريحُ وتفترُّ عن شنيب بَرود
وقوله:
لبسنَ الوشيَ لا متجمّلاتٍ ولكن كي يَصُنَّ به الجمالا
وضفَّرنَ الغدائرَ لا لحسنٍ ولكن خِفنَ في الشَعَرِ الضلالا
وقوله أيضاً في وصف النساء:
مَن الجآذرُ في زيّ الأعاريب حمرَ الحلى والمطايا والجلابيبِ
التي منها:
حسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ وفي البداوةِ حسنٌ غيرُ مجلوب
والمتنبي يصل به وصف الحب حد البكاء حين يقول:
متلاحظيَن نسحُّ ماءَ شؤوننا حذراً من الرقباء بالأكمام
ولا شك في أنه لم يبك يوماً ولا ستر دموعه بأكمامه حذر الرقيب، هكذا نحس نحن حين نقرأه، ولكن الشريف الرضي حين أخذ هذه الصورة في رثائه لأمه وقال:
كم عبرة موهتها بأناملي وسترتها متجملاً بردائي
أبدي التجلّد للعدو، ولو درى بتململي لقد أشتفى أعدائي
فهذا بكاء حقيقي نحسه ونكاد نشارك فيه.
ديوان المتنبي شرحه في زمانه خمسون من نقاد العصر ومنهم ابن جنّي، ثم استمرت الشروح وعبارة: (شرحه وحققه فلان) على كل طبعة حتى يومنا هذا، فهل الشراّح قد شرحوا كل ما أراد المتنبي بيانه؟
بين يدي بيت من أبيــات المتنبي في وصف المرأة المترفة الرقيقة الجسد، راجعت شرحه في ما يتيسر بين يدي في أمريكا من المراجع، وهو ديوان المتنبي «العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب» للعالم العلامة اللغوي الشاعر المشهور الشيخ ناصيف اليازجي ـ دار القلم بيروت، لم يذكر السنة. طبعاً الشيخ راجع الشروح السابقة، والبيت الذي استوقفني شرحه هو:
حِسان التثني، ينقش الوشيُ مثله إذا مِسنَ في أجسامهن النواعم
التفسير في الهـامش ورد هكذا: (الوشي: نقش الثوب، ومسن: تبخترن، أي لنعومة أبدانهن إذا تبخترن ينقش الوشي في جلودهن مثل صورته). انتهى الشرح. وفي طبعة مطبعة هندية في الموسكي في مصر سنة 1343 هجرية 1923 ميلادية ورد البيت أيضاً بهذا الشكل، وبالتفسير نفسه. وفي مخطوطة قديمة وجدتها في مكتبة ديوان الكوفة، الذي كان معلما من معالم لندن رقمها ع 7/200 اسم المخطوطة «شرح ديوان أبي الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن المتنبي» المؤلف الشيخ الإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، ورد البيت بالخطأ نفسه (إذا مسنَ) وورد الشرح هكذا: أي لنعومة جلودهن يؤثر فيها الوشي مثل نقوشه إذا مشين متبخترات كما قال السريّ:
رقت من الوشي نعمة فإذا صافح منها الجسوم وشّاها
إنتهى الشرح من المصدر المذكور.
وعلى كثرة الشارحين وعلو مكانتهم أجد أن هذا البيت ورد فيه خطأ في الإملاء لم يصححه المتنبي في حينه، لأنه لم يطلع على الصورة والكيفية التي نسخ فيها البيت. ولا شك أن ليس بين شراّح شعر المتنبي امرأة واحدة، هذا ما يفسر لنا ورود الخطأ، فمن تجارب أي امرأة أن نقوش الرداء لا تنطبع على جسدها أثناء الحركة إنما تنطبع في حالة استقرارها، استقرار الخد على وسادة منقوشة يترك صورة الورود لساعات في خد المرأة الناعمة، حتى تركنا عادة النوم على الوسائد المطرزة. والثوب المطرز ينطبع على الجسد في الجلوس أو النوم بينما الشرّاح والبيت يشترط في أداة الشرط (إذا) أنَّ حسان التثني في حالة تبخترهن فقط ينقش الوشي على جلودهن مثله. وهذه صورة غير واقعية، وباعتقادي أن البيت ورد أصلاً هكذا:
حِسانُ التثني ينقش الوشيُ مثله إذا مسَّ من أجسامهن النواعمِ
وحدث الخطأ بالنقل فجاءت كلمة (مِسْنَ) بدل كلمة (مسَّ) والحرف (في) بدل حرف الجر من التي هي للتبعيض. عند ذاك يكون المعنى: حسان التثني ينقش الوشي صورته إذا مس أي جزء من أجسامهن النواعم، سواء أكنَّ في حالة النوم أو الجلوس أي بدون شرط، إنما الشرط وقع على (مسَّ) فقط. بينما في الشكل الوارد للبيت في الديوان يجعل شرطاً أن تتبختر الحسناء بالثوب حتى ينقش على جلدها رسومه، وإذا لم تتبختر لا ينقش، كذلك يجب أن يتبخترن بأجسادُهن النواعم (لا بأجسام غيرهن) ثمة خطأ آخر ينتج عن هذا الشرح الخطأ إذ لا يعقل أن يكرر المتنبي معنى ورد في أول البيت وهو (حسان التثني) ليضيف له الشراح (يتبخترن)، وهذا خطأ فاضح إذا كان قد فطن له أحد الشراح قبلي فهو ذكي، وإذا اتفقت كل الطبعات على الخطأ فعذرهم أنهم لا يفهمون المرأة، وإذا كان المتنبي قد كتبه كما نقلوه، فهو يؤيد رأينا فيه أنه ما عرف المرأة، وأصرُّ أن المتنبي لم يخطئ ولم يكتبه إلا بالشكل الذي قدْمتُه أي (إذا مسَّ من أجسامهن). ولا بأس أن أضيف مقالة لي نشرت في جريدة «الشرق الأوسط» عام 1996 من سلسلة مقالات نشرتها لي في الأشهر تموز/يوليو وآب/أغسطس وتشرين الأول/أكتوبر من تلك السنة. وهذا هو عنوان المقالة كما نشر: «خطأ مطبعي عمره ألف عام». نودع المتنبي باختصار وإعجاب ونظل نحبه ونفضله، وإن لم يفسح للحب مكاناً في قلبه المليء بالطموح، ونظل نعشقه وإن لم يعشق.
أديبة عراقية ـ كاليفورنيا
عن القدس العربي



















