+
أأ
-

علي الفواز يكتب ..العالم والترامبية أوهام السلطة وفخاخ الليبرالية

{title}
بلكي الإخباري

بقلم : علي حسن الفواز- كاتب عراقي





يبدو أن العالم في مرحلة «ما بعد الترامبية» سيخضع إلى مراجعات أكثر حدة، حيث سيتم تقصي مجريات السياسية والأمن والاقتصاد والصحة، مثلما ستتم إعادة قراءة أدلجة التنمر، التي ارتبطت بسياسته، وبمواقفه وبنظرته للآخر، وربما بتمثيله للبراديغم الخلافي في النمط الرئاسي، وفي النمط الأمريكي والأنساق الحاكمة للعقل الرأسمالي، حيث أفقدت تطبيقاته القاسية والساخرة لـ»الديمقرطية الليبرالية» قوة الأنموذج، على مستوى القبول بها كفاعلية في ممارسات الخطاب السياسي، أو على مستوى رؤيته لمفاهيم رسملة السوق والحقوق والحريات والتنوع والقيم والإدارة، أو على مستوى التعاطي مع الآخر جندريا وجنوسيا وعرقيا.

التنمر الترامبي صار نوعا من خديعة العالم، لأنه أعاد إنتاج «اللغة البيضاء» القائمة على كراهية الآخر، إذ تحولت إلى قوة منع غامضة لها خطابها واستعاراتها، مثلما تحولت إلى عقدة سايكوباثية في اعتلالها واضطرابها، وحتى في استعراضيتها، فضلا عن انعكاسها ـ من جانب آخر- على تداولية مفاهيم إشكالية، روجت لها المؤسسة الرأسمالية كثيرا، كالحرية والفردية والمنافسة والتجارة الحرة وحق الاختيار.

لقد شهدت مرحلة «الحرب الباردة» صراعا وجوديا وعنفا أيديولوجيا أسهما في صياغة وتداول تلك المفاهيم، حتى باتت وكأنها تختصر الدفاع عن وجود الرأسمالية، بوصفها ظاهرة لإدارة العالم، ولضبط إيقاع الصراع والانتصار والعنف والسيطرة، فمفهوم مثل «نهاية التاريخ» الذي وجد فيه فرانسس فوكوياما مثالا إجرائيا لنهاية «التدوين الاشتراكي» وللنظر إلى الآخر «المهزوم» من خلال قياس التحولات الكبرى، التي حدثت بعد انهيار المركزية الدوغمائية للاتحاد السوفييتي السابق، التي بدت وكأنها سرديات مفتوحة لتسويغ الحديث عن قوة وثقافة المركز الجديد، وعن هويته وخطابه، ومنصاته وآلياته في تسويق اللامركزية الأيديولوجية، وعن التصور المتعالي للأنموذج الفائق، القرين بصورة الديمقراطي الليبرالي، بوصفه البطل والمنقذ والمخلص والطهراني، كما في الأدبيات الأمريكية.

هذه التحولات لم تكن بريئة، فلا هي جزء من مسار نمطي وطبيعي للتاريخ، ولا هي تعبير عن انتصار حقيقي، ونجاح فاعل ونقدي في التعبير عن التمثيل المركزي للحضارة، بل إنها تحولت إلى مجال عمومي لتغول الصراعات الإنسانية التقليدية، باتجاه مركزتها في صراع دام، وقهري يقوم على فرضية مفهومية، أكثر تشوشا كالتي طرحها صاموئيل هنتنغتون تحت اسم «صراع الحضارات» بوصفه ترويجا لتكريس مفهوم «الحضارة المنتصرة» وتعبيرا عن علاقة هذا الانتصار العنيف بالمركزية المتخيلة للأمركة الحضارية، مقابل إنهاء افتراضي لمركزيات تاريخية قديمة، تمثلها الحضارات الإسلامية والصينية والهندية وغيرها.

ما حصل بعد أحداث 2001 من استفزاز بنيوي ورمزي للمركز التجاري الأمريكي، استدعى القيام بفعل عسكري لا يمكن تفسيره إلا على أساس التلويح بـ»القوة العالمية» وبفرضيات الحضارة المقبلة، والتاريخ الذي يكتبه الأقوياء، وهي فرضيات لا يمكن الركون لها علميا ولا تاريخيا، لأنها نوعٌ من ردود الأفعال اللاواعية، التي تنظر للعنف بوصفه انتصارا وليس نجاحا، فما حدث في أفغانستان لم يحقق للولايات المتحدة نجاحها في السيطرة على آسيا، ولا في إيجاد حافات للنار عند حدود روسيا والصين وإيران، فظلت «طالبان» و»القاعدة» مع أنموذج «داعش» الإرهابي أكثر تعبيرا عن الفشل، كما أن احتلال العراق وإسقاط ديكتاتوريته السياسية، لم يحقق أيضا نجاحا واقعيا، ولا حتى صياغة عقد سياسي جديد في العراق، بل كان الاحتلال استئنافا للماضي، وتحريضا على إعادة إنتاج العنف الاجتماعي والديني والطائفي والجندري، وعبر جماعات لم تنسجم مع مفهوم الانتصار الذي روج له الأنموذج الأمريكي.

الترامبية والشعبوية

صعود الترامبية هو تعبير عن فشل ثقافي للعقل الأمريكي الجديد ولبدعة تلك المفاهيم وضحالتها، وفساد تطبيقاتها، لاسيما بعد أن فقدت قيمها التمثيلية، وشرط علاقتها بالصراع الأيديولوجي مع الآخر، حيث باتت الأقرب للتعبير عن تمثيل نمط متعال لأنثربولوجيا «الرجل الأبيض» وممارسة في تكريس توحش الرأسمالية ذاتها، وأقنعة التنمر العنصري، على مستوى «موت الأنموذج المتعالي لصورة الرئيس الأمريكي» التقليدي، وعلى مستوى ولادة «الأنموذج الشعبوي» الذي يمثله الرئيس ترامب، بقطع النظر عن مرجعياته في مجتمع المال والجنس والفنادق والعلاقات العامة والنسق الرئاسي، فهذا الأنموذج وضع تلك المفاهيم وكأنها إعادة لإنتاج تاريخ السخرية، ولرثاثة صورة «أمريكا العظمى» في العالم، عبر علاقتها مع الأنظمة الفاسدة والديكتاتورية، وعبر تحويل مؤسساتها إلى بيوت للمانيفتكورا العسكرية، حيث البيع السهل لمن يدفع أكثر، بعيدا عن مراعاة التوازن واستراتيجيات التسلح، وتفخيخ العالم بأسباب الحروب المحتملة.

فشل الرئيس ترامب في إعادة انتخابه لدورة رئاسية ثانية، يعكس مدى السأم السياسي من هذا «النمط الرئاسي» مثلما يعكس مدى خطورة تفاقم ظاهرته على الديمقراطية الأمريكية، في سياق وجودها المؤسساتي، أو الأنثربولوجي، أو في سياق تمثيلها للمجتمع الأمريكي المتعدد الأجناس والأعراق والألوان، فما سوّقه الأنموذج الترامبي هو عودة لسلطة الرئيس الأبيض، الذي يحكم بالمنطق الهيغلي القائم على ثنائية السيد والعبد، فضلا عن الثنائية الملتبسة للأنا والآخر، فالآخر الشرقي، المسلم، العربي، الهندي الأحمر، اليساري بالمعنى الأيديولوجي هو «العدو» الذي يقابل الصديق «إسرائيل» والتابع، العديد من الدول التي تشتغل في سوق حماية السلاح الأمريكي وإشاعاته الكبرى عن فرضية العالم الحر.. وهذا ما يجعل النظر إلى مفهوم آخر أكثر التباسا مثل «الليبرالية الجديدة» بنوع من الريبة، بوصفه مفهوما ذا مرجعية أيديولوجية أكثر من أي شيء آخر، فهو لا يعدو أن يكون مجموعة من السياسات الاقتصادية المبرمجة، التي تهدف إلى الترويج لفرضية هيمنة السوق والنظام العالمي، الذي يحكمه الأثرياء والشركات العابرة للحدود، مقابل تعطيل الدور الاجتماعي للدولة، وتقويض مشاريع الدعم الحكومي، وربطها بحرية وقوة رأس المال على مستوى الاستثمار العالمي، وعلى مستوى عدم التحكم بالأسعار وقطع الطريق على تنفيذ السياسات الخاصة بالخدمات الاجتماعية التي تخص الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وخدمات الماء والكهرباء والتعليم، فضلا عن الترويج لفكرة الخصخصة للمشاريع الاستراتيجية التي ترتبط بنظام الخدمات الكبرى. لقد تم وضع مفهوم «الليبرالية الجديدة» تداوليا كبديل لمغامرة العقل الرأسمالي، حيث السيطرة والرقابة وحتى العسكرة، إذ باتت العسكرة الأمريكية – في المرحلة الترامبية – أكثر تعبيرا عن مفهوم السوق الجديد، والسيطرة والاحتواء، وتقويض السيادات المحلية، فضلا عن إبراز سياسات الطرد، من خلال الانسحاب من المعاهدات والاتفاقات الدولية، مثل اتفاقية باريس للمناخ والبرنامج النووي الإيراني، ومعاهدة الصواريخ النووية مع روسيا، كما انسحبت من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في أكتوبر 2017، ومن اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، ومن الميثاق العالمي للهجرة، ومن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فضلا عن قيام إدارة ترامب بمنع دعم منظمة الصحة العالمية، ومنع الإمداد عن الأونروا لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.

هذه السياسات تعكس مدى التحول الشرس في الخطاب الأمريكي، بوصفه خطابا رأسماليا أولا، وشعبويا ثانيا، إذ بات النظام الأمريكي التقليدي مهددا على الدوام من طبائع السياسات الرئاسية، فبقطع النظر عن المحددات التي تحكم أي رئيس أمريكي، إلا أن الصلاحيات الدستورية تجيز له استخدام كثير من السلطات، واتخاذ القرارات التي من شأنها أن تُسهم في تغيير موازين السياسة في العالم، وهو ما فعله الرئيس ترامب، الذي تصرف كثري، وأبيض وصاحب سوق، وليبرالي جديد، ليترك آثارا بشعة على المستوى الاجتماعي الأمريكي، الذي تعرضت بنيته العميقة لما يشبه العودة إلى العنف العنصري، وعلى العالم الذي بات يواجه أخطار حروب كارثية ومجاعات كبرى وأزمات قد تهدد السلم الأهلي في الأرض.

كاتب عراقي