+
أأ
-

مكرم مصطفى القيسي .... دبلوماسي من الطراز الرفيع ورجل دولة بامتياز

{title}
بلكي الإخباري

 

كتب ليث الفراية 

- في عالم تتسارع فيه التحديات السياسية والدبلوماسية، برزت شخصيات قليلة استطاعت أن تجمع بين الحكمة والحنكة، وبين الانفتاح على العالم والتجذر في الهوية الوطنية. من بين هذه الشخصيات الأردنية، يبرز اسم معالي مكرم مصطفى القيسي، رجل الدبلوماسية الذي شقّ طريقه بثبات من بلاط الديوان الملكي إلى منابر الأمم المتحدة ومن ثم إلى موقع المسؤولية التنفيذية كوزير حمل على عاتقه مهمة تمثيل الأردن، ليس فقط أمام العالم، بل أمام الأجيال القادمة.

ولد مكرم القيسي في العاصمة الأردنية عمّان، في بيت يحمل من القيم الوطنية والولاء الكثير. نشأته في عائلة عريقة كان لها باع طويل في العمل العام، منحته منذ الطفولة مفاتيح الفهم العميق للدولة، وعلّمتـه أن الوطنية ليست شعارًا، بل التزامًا ومسؤولية.

اختار دراسة علوم الحاسوب، وهو تخصص تقني بحت، لكنه سرعان ما وجد ذاته في عوالم السياسة والدبلوماسية. هذه القفزة الفكرية من التقنية إلى العلاقات الدولية كشفت مبكرًا عن شخصية متفردة، قادرة على الانتقال بين الحقول باحتراف، وهذا ما سيتكرر لاحقًا في مسيرته المهنية.

عمل القيسي في الديوان الملكي لمدة 12 عامًا، وهي فترة كافية ليعيش عقل الدولة وقلبها عن قرب. في هذا المكان، لم يكن مجرد موظف يؤدي واجباته، بل كان شريكًا في صياغة صورة الأردن أمام الداخل والخارج. لقد كانت تلك المرحلة بمثابة "مدرسة الدولة"، التي يتخرج منها رجال المرحلة، أولئك الذين لا تستهويهم الأضواء بقدر ما يركزون على بناء المؤسسات وحماية الثوابت.

عُرف عن القيسي خلال عمله كسفير في النمسا وفرنسا وسلوفينيا والبرتغال وغيرها، أنه لم يكن دبلوماسيًا تقليديًا. كان يحمل همّ الهوية الأردنية، ويقدمها للعالم بلغات متعددة، ليس فقط بالحوار السياسي، بل من خلال الثقافة والفكر والسلوك الراقي.

كان ممثلًا للأردن في المنظمات الدولية، حيث لعب دورًا مهمًا في توضيح مواقف المملكة من مختلف القضايا، لا سيما في ملفات الأمن الإقليمي، ونزع السلاح، والطاقة النووية، والحوار بين الحضارات. ترك بصمة خاصة في فيينا وباريس، لا بوصفه مجرد سفير، بل كجسر حضاري يربط الضمير الأردني بوعي العالم.

حين تم تكليفه بمنصب وزير الشباب ثم وزير السياحة والآثار، لم يتعامل القيسي مع الوزارات كمؤسسات إدارية، بل كمسؤوليات استراتيجية. فهم السياحة ليس بوصفها قطاعًا اقتصاديًا فقط، بل كأداة ناعمة في يد الدولة، ومصدر فخر وطني لهوية لا تزال تنبض من البترا إلى جرش، ومن الكرك إلى أم قيس.

في وزارة الشباب، آمن بأن الاستثمار الحقيقي ليس في البنية التحتية فقط، بل في الإنسان. سعى إلى نقل الشباب من الهامش إلى صلب المعادلة الوطنية، إيمانًا منه بأن الدولة التي لا تستمع لأصوات شبابها، تضعف تدريجيًا في مواجهة المستقبل.

القيسي لا ينكر جذوره العائلية التي شكلت جزءًا من وعيه الوطني. والده، مصطفى القيسي، كان أحد أبرز رجالات الدولة الأردنية، ومديرًا للمخابرات العامة، عُرف بالحكمة والمهنية. وهذا الإرث منح مكرم فهمًا عميقًا لطبيعة الدولة الأردنية وأهمية العمل في صمت وتوازن.

كما أن ارتباطه بعائلة سياسية أخرى من خلال مصاهرته للدكتور ممدوح العبادي، أحد رموز العمل العام في الأردن، ساعده على بناء علاقات متعددة الطبقات داخل المجتمع السياسي، دون أن يفقد استقلاليته الفكرية أو قراره السيادي.

ما يميز مكرم القيسي، هو قدرته على الحفاظ على توازن دقيق بين الأردنية الأصيلة والرؤية العالمية. هو ابن البلد، يعرف تفاصيل الشارع الأردني، ويحترم العادات والتقاليد، لكنه في ذات الوقت منفتح على كل جديد، يقرأ التحولات العالمية بدقة، ويدرك أن موقع الأردن الجيوسياسي يحتم عليه أن يكون لاعبًا لا متفرجًا.

في خطاباته ومقابلاته القليلة، يظهر دائمًا بلغة رصينة، بعيدة عن الشعبوية، لكنه قريب من الناس. وهذا الاتزان بين الرسمي والإنساني هو ما أكسبه احترامًا واسعًا داخل وخارج الأردن.

معالي مكرم القيسي ليس رجلًا عاش تحت الأضواء، بل صنع مجده في الظلال الهادئة للدبلوماسية والعمل العام. هو نموذج نادر في زمن صاخب، يشتغل بصمت ويؤمن بأن بناء الدولة يحتاج إلى جنود خلف الكواليس لا يقل دورهم عن المتصدرين للمشهد.

إنه بحق، أحد أبناء الأردن الذين نفتخر بهم، ليس فقط لما أنجزه، بل لما يمثله من قيم: التوازن، العقل، الاحترام، والانتماء العميق لوطن اسمه الأردن.