+
أأ
-

م. سعيد المصري يكتب : انهيار منظومة القيم في عالم المادية المفرطة: الواقع الأردني وإمكانيات الإصلاح

{title}
بلكي الإخباري

في عصر تتسارع فيه مظاهر الحضارة المادية على حساب الأبعاد الروحية والأخلاقية، تتعرض منظومة القيم الإنسانية لهزات عميقة تكاد تعصف بجوهر التماسك الاجتماعي والتوازن النفسي لدى الأفراد. لم تعد القيم مثل الصدق، والإيثار، والتكافل، والعمل الشريف، منارات يهتدي بها الناس، بل تراجعت أمام سطوة المال، والنفوذ، والنجاح السريع بأي وسيلة.

ورغم أن هذه الظاهرة عالمية، إلا أن تجلياتها في المجتمع الأردني باتت أكثر وضوحاً، خصوصاً في ظل الضغوط الاقتصادية، ووسائل الإعلام الاستهلاكية، وتآكل الطبقة الوسطى، والاختلال المتزايد بين القيم المعلنة والممارسة اليومية.

مظاهر الانهيار القيمي في المجتمع الأردني:

1. تفشي الفردانية والنفعية:

أصبحت المصلحة الشخصية مقدّمة على الصالح العام، بدءاً من العلاقات الاجتماعية وانتهاءً بالممارسات المهنية. كثيرون باتوا يبررون الغش أو المحسوبية أو التهرب الضريبي بحجج تتعلق “بتأمين مستقبلهم” في غياب العدالة الاقتصادية.

2. تراجع هيبة التعليم والعمل المنتج:

لم يعد التفوق العلمي ولا الجهد الحقيقي معياراً للارتقاء، بل حلت مكانهما ثقافة “الواسطة” و”الشطارة”، مما أدى إلى إحباط أصحاب الكفاءة.

3. ضعف الروابط الأسرية والاجتماعية:

في ظل ضغوط الحياة وتفشي نمط الحياة الاستهلاكي، تراجعت قيم البرّ، وصلة الرحم، والتكافل المجتمعي، وحلت محلها علاقات مصلحية أو افتراضية سطحية.

4. تآكل الثقة بالمؤسسات:

عندما يشعر المواطن أن هناك فجوة بين الخطاب الرسمي والسلوك الفعلي لبعض المسؤولين أو الشخصيات العامة، فإن ذلك يعزز مشاعر الاغتراب واللامبالاة.

الأسباب المحركة لهذه الظاهرة:

• التحول العالمي نحو اقتصاد السوق المنفلت من الضوابط الاجتماعية.

• الإعلام الجديد الذي يعزز ثقافة المظاهر والنجومية السريعة.

• ضعف منظومة التربية القيمية في الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية.

• فشل السياسات العامة في خلق نماذج يُحتذى بها من النزاهة والإنصاف.

ما هو المطلوب لإصلاح ما أفسدته ثقافة الحضارة المادية؟

1. إعادة الاعتبار للتربية القيمية:

يجب إصلاح المناهج التربوية لتغرس في النشئ مفاهيم المواطنة الصالحة، والعدل، والكرامة، والعمل كقيمة، مع التركيز على التطبيق لا الحفظ.

2. نشر نماذج ملهمة من الواقع:

ينبغي تسليط الضوء إعلامياً على أردنيين ناجحين بأخلاقهم واجتهادهم، لا بسطوة المال أو الشهرة الزائفة.

3. إعادة هيكلة السياسات الاجتماعية:

توفير شبكات أمان اجتماعي واقتصادي عادلة تقلل من شعور الأفراد بالتهميش، وتمنع انزلاقهم نحو الممارسات غير الأخلاقية.

4. تعزيز دور المؤسسات الدينية والمدنية كحاضنات أخلاقية:

على هذه المؤسسات تطوير خطاب عقلاني واقعي يعالج القضايا الحياتية المعاصرة ويبتعد عن الوعظ المجرد.

5. تحقيق القدوة في أعلى المستويات:

عندما يرى المواطن مسؤولاً نزيهاً أو رجل دين متواضعاً ملتزماً بما يعظ به، تنهض القيم تلقائياً.

6. تمكين القيادات العشائرية المتنورة كرافعة أخلاقية واجتماعية:

لطالما شكّلت العشيرة الأردنية إطاراً لترسيخ قيم الشهامة والكرم والتكافل. وفي ظل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، يبرز دور شيوخ العشائر ووجهائها المتنورين في إعادة ضبط البوصلة القيمية.

هؤلاء القادة قادرون، من خلال التأثير المجتمعي، على إحياء القيم الأصيلة ضمن العشيرة وخارجها، وتعزيز الإصلاح الذاتي، ونبذ السلوكيات الدخيلة، وإعادة الاعتبار لثقافة المسؤولية والاحترام المتبادل.

دعمهم الرسمي والمجتمعي سيكون ركيزة في ترميم النسيج القيمي من جذوره.

وختاماً:

إن مقاومة طوفان المادية ليست دعوة للانسحاب من العالم الحديث، بل نداء لاستعادة التوازن بين التقدم المادي والارتقاء الأخلاقي. فمجتمع بلا قيم يشبه جسداً بلا روح، وإن الأردنيين الذين صمدوا في وجه الأزمات، قادرون على النهوض مجدداً إذا أُعيد إحياء البوصلة الأخلاقية التي ضلت الطريق.