م. عدنان السواعير يكتب : إذ يصبح الأردن رأساً للحربة

ما نشهده اليوم من تحولات سريعة في المنطقة يبعث على القلق، ويصعب قراءته بثقة، خاصةً حين نتأمل موقع وطننا الأردن على رقعة الشطرنج الإقليمي المسماة "الشرق الأوسط".
التصريحات الإسرائيلية المتكررة مؤخرًا، والتي تصف الحدود الأردنية بأنها الأخطر على الكيان الصهيوني، لا يمكن قراءتها إلا كمؤشر على تحوّل كبير في المفاهيم والسياسات، بل وذهبت إسرائيل إلى التلويح ببناء جدار حدودي مع الأردن، في سابقة تكشف عن مستوى الانحراف السياسي الذي وصلت إليه قيادة الاحتلال.
لطالما كان الأردن دولة عقلانية، متزنة في مواقفها، ميّالة إلى الحوار والحلول السياسية، أن تصبح هذه الدولة اليوم في نظر الاحتلال "الأخطر"، هو دليل على حجم التغيير في المنطقة، وعلى موقف أردني ثابت بات استثناءً في محيط متغيّر.
منذ السابع من أكتوبر، تسارعت الأحداث بشكل دراماتيكي: حرب إبادة وتهجير ممنهجة استهدفت الشعب الفلسطيني الأعزل، بدءًا من غزة، ثم امتدت إلى الضفة الغربية؛ اتسع الصراع ليطال جنوب لبنان، واشتدت الهجمات على سوريا، ووصلت حتى إيران حيث تم اغتيال إسماعيل هنية ولم تكن اليمن بعيدة عن التصعيد العسكري أيضًا.
بات من الواضح أن إسرائيل تمارس حريتها في شنّ الهجمات حيثما شاءت، وكيفما شاءت، دون أي رادع أو محاسبة دولية، إذا أضفنا إلى ذلك عودة دونالد ترامب، تاجر العقارات والرئيس السابق، إلى الواجهة كرئيس للولايات المتحدة، فإننا أمام مشهد أكثر تعقيدًا وخطورة.
النتيجة الواقعية التي تفرض نفسها اليوم هي: تصفية ما كان يُعرف بمحور المقاومة.
حركة "حماس" تقاتل بما تبقّى من إمكانياتها، و"حزب الله" لم يعد يظهر كركن فاعل، واليمن تبقى بعيدة جغرافيًا عن ساحة المواجهة الأساسية، أما سوريا، فقد أفقدتها تحوّلاتها الداخلية القدرة على التأثير وإيران تبدو منشغلة بمصالحها الإقليمية بعيدًا عن المعركة المركزية.
ببساطة، هذا المحور لم يعد موجودًا، ولم يعد بالإمكان التعويل عليه.
ما يحدث اليوم ليس وليد اللحظة، بل هو استمرار لمشروع استيطاني صهيوني امتد لأكثر من ثمانين عامًا. مشروع هدفه النهائي إبادة ما يمكن من الفلسطينيين، وتدمير الأرض لتُصبح غير صالحة للعيش، تمهيدًا لتهجير من تبقى وإنهاء الوجود الفلسطيني تمامًا. وتبًا، حقًا، لمن يقف في وجه هذا المشروع.
اليوم، من يقف وحده في مواجهة هذا المشروع هو الأردن ولا أبالغ إذا قلت إن الأردن بات رأس الحربة في مواجهته ورفضه.
قناعتنا أن الأردن لم يتغير، بل ظل ثابتًا على مواقفه، ما تغير هو المشهد من حوله، فتبدّى الأردن كأنه الصوت الوحيد العالي، في ساحة تتكاثر فيها الحسابات وتضعف فيها المواقف.
جاء ذلك بشكل أوضح بعد زيارة جلالة الملك إلى الولايات المتحدة، ثم زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنطقة، والتي كانت محط آمال كبيرة بأن تفتح نافذة أمل.
كنا نأمل أن يساند أحد الأردن في وقف هذه المذبحة وكنا نأمل أن تساهم زيارة ترامب في إطلاق مسار سياسي جاد، أو على الأقل وقف المجازر، الرئيس الأميركي وعد بـ"مفاجأة كبرى"، وتوقع البعض أن يحمل اعترافًا بدولة فلسطين، أو مبادرة توازي حجم الكارثة والمعاناة، لكن الواقع كان أبعد ما يكون عن ذلك.
في جولته، تطرق ترامب إلى النزاعات في الكونغو، السودان، أوكرانيا، والتوترات بين الهند وباكستان، بينما غابت غزة عن الأجندة بالكامل، باستثناء عبارات مبهمة مزدوجة المعنى، هذا التجاهل يعكس استمرار التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية هامشية، رغم وضوح التطهير العرقي وعلانيته.
حتى في قطر، التي تُعد من أكثر الساحات تداخلًا في الملف الفلسطيني، اقتصر التركيز على ملف الأسرى الإسرائيليين، وجود وفد من حماس، ومبعوث إسرائيلي سابق في الدوحة، لم يدفع بملف غزة إلى صدارة الاهتمام، رغم مشاركة قطر النشطة إلى جانب مصر في جهود التهدئة، ظل الموقف مترددًا وغائمًا.
هذا الصمت المريب، وهذا الغياب المتعمد للحديث عن غزة في جولات وزيارات سياسية بهذا الحجم، يطرح أسئلة ملحة عن أولويات الأطراف الإقليمية والدولية. ويكشف عن فجوة واسعة بين الخطابات التي تتغنّى بالقضية الفلسطينية، وبين الواقع الفعلي للتعامل معها في لحظات الحسم.
ويبقى السؤال الأخطر:
هل يستطيع الأردن الاستمرار وحده في حمل هذا الملف؟
في ظل عزوف عربي مقلق، وانشغال القوى الكبرى بملفات أخرى،
هل نملك ما يكفي من الصبر والقدرة لمواصلة التصدي وحدنا؟



















