فيجا ابو شربي تكتب : الأسرة نواة الأمة: من الشراكة الزوجية إلى مصير الشعوب

الأسرة ليست مجرد رابطة اجتماعية، بل هي الخلية الأولى في جسد الأمة، ومنها تبدأ معالم الاستقرار أو بوادر الانهيار. وفي قلب الأسرة يقف الزواج، لا بوصفه عقدًا قانونيًا فحسب، بل باعتباره عهدًا إنسانيًا وأخلاقيًا، يجمع بين رجل وامرأة ليشكّلا معًا نواة المجتمع، شريكين في الحياة، ورفيقين في المشوار، ومرآتين تعكسان صورة الأمل والتوازن للأبناء، ومن ثم للمجتمع بأسره.
الزواج في أصله لم يُشرّع لتقييد الإنسان، بل لاحتوائه، ولم يكن هدفه تحقيق متعة عابرة، بل تأسيس شراكة ممتدة، تتقاسم فيها القلوب الأعباء والهموم، ويتحول فيها كل طرف إلى ونيس وصديق حقيقي للآخر، لا فقط في لحظات الفرح، بل في عزّ الأزمات، وحتى في خريف العمر، حين يتكئ أحدهما على الآخر بكل ما فيه من ضعف وحنين، وتغدو العِشرة أثمن من أي كلمات.
لكن متى ما غاب هذا الفهم العميق للعلاقة، وتحول الزواج إلى عقد هشّ تحكمه النزوات أو المصالح المؤقتة، يبدأ التفكك بصمت. الطلاق، وإن كان في بعض الأحيان حلًا مشروعًا، إلا أنه غالبًا ما يأتي كنتيجة لفشل في إدارة العلاقة، أو لسوء فهم لطبيعتها، أو لتراجع القيم التي تحكمها. وإذا تكاثر هذا النموذج، نشأت أعداد متزايدة من الأسر المفككة، وأجيال مرتبكة لا تجد مرجعًا نفسيًا أو عاطفيًا تستند إليه.
وفي هذا السياق، تبرز ظاهرة مقلقة في مجتمعاتنا، وهي الإفصاح عن خصوصيات العلاقة الزوجية بعد الطلاق، وجعلها مادة للتشهير أو للانتقام. يُفترض أن تظل تفاصيل الزواج، بكل ما تحمله من خصوصية وكرامة، طي الكتمان، حتى بعد الانفصال. فالزواج شراكة قائمة على الثقة، وما يُقال في لحظات الود لا ينبغي أن يُستخدم سلاحًا في لحظات الغضب. غير أن الفكر السائد حاليًا في بعض الأوساط، يدفع أحد الطرفين إلى الخروج على الملأ كاشفًا الأسرار، مهددًا متوعدًا، وكأن العلاقة كانت بين أفراد عصابة لا بين زوجين جمعهما عهد ومسؤولية.
وفي خضم هذا التشظي، يقف الأبناء مذهولين، تتنازعهم مشاعر الخوف والخذلان، وهم يشاهدون من كانا يفترض أن يكونا درع الأمان في حياتهم وقد تحولا إلى مصدر صراع علني يفتك بطمأنينتهم ويبعثر صورة القدوة في أعينهم.
إنّ خطورة هذا المشهد لا تقف عند حدّ الأسرة، بل تمتد إلى المجتمع كله. فأمة تُنتج أسرًا مفككة، تنشئ أفرادًا مشوشين، فاقدي الانتماء والثقة، عاجزين عن بناء علاقات مستقرة أو المساهمة في نهوض مجتمعهم. وحين يشيع هذا النمط، تصبح الأمة برمتها عرضة للانهيار، لا بفعل غزو خارجي، بل من الداخل، من البيوت التي لم تعرف طعم الطمأنينة، ولا معنى الحوار، ولا قيمة الاحترام المتبادل.
فليست رفعة الأمم رهينة بقوة السلاح أو وفرة المال، بل بمقدار ما تحفظه من روابطها الإنسانية الأولى، وما تغرسه في أفرادها من قيم الوفاء والمسؤولية والرحمة. الأسرة، حين تكون متماسكة وواعية، تُخرّج أفرادًا أقوياء من الداخل، أمناء في علاقتهم بذواتهم وبالآخرين. أما حين تتفكك، فإن الشروخ النفسية لا تبقى داخل جدران البيوت، بل تمتد لتُحدث صدعًا في وجدان الأمة كلها. فالحضارات تبدأ من البيت، وتنهار أيضًا من عتباته.



















