نور الدويري. تكتب : الحرب الجديدة: تجويع غزة مثالاً

تواجه البشرية جمعاء نمطًا جديدًا في السلوكيات الإنسانية والاستراتيجيات العسكرية، يتمثل في تجويع الخصوم خلال الحروب، وهو النموذج الذي ابتكرته إسرائيل علنًا في غزة.
قد لا يكون مثال غزة جديدًا، فهناك تجارب مشابهة في السودان والصومال، حيث وصلت الأحداث السياسية إلى تجويع المدنيين. إلا أن تحويل المساعدات الإنسانية إلى أفخاخ عسكرية تستهدف المدنيين العزل، الذين يشكل النساء والأطفال أغلبهم، يمثل مأساة جديدة واستراتيجية عسكرية قاتمة.
لكن كيف ستؤثر دورة الأخبار التجويعية والصور المؤلمة في عقل المشاهد نفسيًا؟ وكيف سيبدو الفكر الإنساني في ظل هذه المأساة؟
يمكن تفسير ذلك عبر نظرية التعرض المستمر، التي تعتمد على تعريض المتلقي لفكرة مكررة تدريجيًا حتى يعتادها ويقبلها، ما يطور لديه حالة من التلبد العاطفي، وهو تأقلم سلبي وخطير. هذه الاستراتيجية مارستها إسرائيل على العالم عبر مراحل: المرحلة الأولى القصف الوحشي، ثم المرحلة الثانية الانفصال النفسي الذي بدأ مع الاجتياح البري والتوغّل على الغزيين بحجة القضاء على حماس، وهي تعقيد للفكرة الأصلية وإضعاف إمكانات حلها، ثم المرحلة الثالثة التي تتمثل في نظرية الإجهاد المزمن، حيث يبدأ المتابع العربي والدولي في التكيف مع رعب التجويع والأفخاخ البشرية.
إن قوائم الحياة التي قُتلت وهي تقف في طوابير طلب الطعام، متقدمة نحو موتها بإرادتها، وكأنها جزء من لعبة إلكترونية في السوق السوداء، أو مشهد من (فيلم الحبار)، تمثل فاجعة نفسية حقيقية لكل متلقٍ بحسب قدرته على استيعاب مشاهد الجوع والقتل الغريبة.
المفارقة أن الدعم العربي في بداية حرب غزة كان أقوى وأكثر اندفاعًا، خاصة في المرحلة الثانية التي انتقلت فيها الحرب من مواجهة عسكرية تقليدية إلى حرب تجويع وأفخاخ، مما يدل على فزع فكري من بدء تقريع وقتل الناس بصور وحشية وسط صمت أشد ألمًا مما نراه. هذا يعكس انكسارًا نفسيًا سيؤدي حتمًا إلى تراجع السلوك الإنساني الإيجابي، وتصاعد خطاب الكراهية، واشتداد العداء، وانتشار العدوانية كرد فعل غضب مكبوت في العقل اللاواعي، ما يؤثر على نفسية المتلقي وبيئته على حد سواء.
نشهد اليوم مزاجًا جديدًا للتطبيع مع المأساة، يؤثر على اللاواعي العالمي، وليس العربي فقط. فقدان القدرة العقلية على التعاطي الإنساني الطبيعي مع صور القتل والمعاناة يمثل أخطر تحدٍ تواجهه الإنسانية.
غزة اليوم لا تجوع وتموت وحدها، إنما التجويع الفكري والموت الإنساني سيخلّفان صدمة طويلة الأمد. بدأ الجمهور العربي، في الغالب، يُطبع مع المجاعة. المشهد تكرر، والمأساة تمددت حتى أصبحت الجثث على عربات المساعدات مشهدًا معتادًا في خلفية الشاشات، ولم تعد تثير الصدمة ذاتها. في زمن التشبع الرقمي والتفاعل السطحي على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي ركز على تخوين وتكفير المواقف الشعبية والرسمية بدلًا من التركيز على حرب التجويع والضغط الرقمي كواجب إنساني وطني لإنهاء الحرب.
من جهة أخرى، غزة تغيرت للأبد. السياسة الإسرائيلية المرعبة في حرب التجويع تغذي مشاعر الألم الدائمة التي سيكون من الصعب التعايش معها لاحقًا. مصير إسرائيل مهما اختارت اليوم، لن يكون إلا أمام وجوه الألم والقهر والخذلان، وستدفع بالغزاويين والفلسطينيين، اليوم أو غدًا، إلى مزيد من المقاومة الحرة، التي لا ترتبط بالضرورة بأي فصيل سياسي.
من منظور نفسي، يبدو أن إسرائيل تقتل الغزاويين انتقامًا من تاريخهم المضطرب، وكأنها تنتقم من تاريخهم في أهل غزة، مما حوّلهم إلى أنانيين متوحشين وسط خذلان عربي ودولي. وهذا يعكس تآكل الإحساس بالمسؤولية تجاه غزة إنسانيًا وضعف الإرادة العامة لإيقاف الحرب.
ويمكن أن نفهم اقتباسا مهما لاحد علماء النفس
الذي أورد في دراسة المرونة العاطفي " ان التعرض المطول للأزمات الإنسانية، بما في ذلك الحروب والمجاعات، بشكل كبير في التبلد العاطفي والإجهاد المزمن بين الفئات المتضررة، مما يؤدي إلى ضعف التعاطف وزيادة اضطرابات الصحة النفسية."* (1)
حرب المجاعة برأيي هي اختبار عظيم لإنسانيتنا، وأن تفضيل الصمت أو خوض معارك رقمية تخوينية لأدوار عربية رسمية أو شعبية، هو بمثابة تأقلم رقمي مع المجاعة، بدلًا من توحيد الجهود والضغط الحقيقي لإيقافها.
فبدل أن تثور مواقع التواصل الاجتماعي في وجه الجوع كما ثارت في وجه القصف، نراها تصمت اليوم، وكأن المجاعة مجرد خبر آخر في نشرة متخمة بالعجز!
كيفما انتهت هذه الحرب، لن يعود العالم كما كان، وستنشأ سلوكيات اجتماعية جديدة تؤثر في جوهر الإنسانية. نبدأ عصر الفكر الآلي حتى قبل أن تتطور الآلة فعليًا، وكأن البشر يتحولون تدريجيًا إلى نماذج آلية في تعاطيهم مع حياتهم.
أما غزة، فستكون قصة أخرى؛ فمن يرمم الجراح الآن، والأطفال يموتون جوعًا، وربما تسمعون صراخ رضيع في أذانكم وأنتم تُنهون قراءة هذا المقال المرهق نفسيًا.
*** ****
* (1) سميث، أ.، وجونز، م. (2021). المرونة العاطفية والتبلد في الأزمات الإنسانية الممتدة: مراجعة منهجية. مجلة الصدمة والإجهاد، 34(2)، 233-245.



















