وسام العياصرة تكتب : بين ادعاء الوطنية وحب الظهور

في زمنٍ ازدحمَ بالهتاف وضجَّ بالشعارات، تاهت المعاني الحقيقية في زحام الألفاظ، وغدا الادّعاء بالوطنية سترةً يرتديها كثيرون، بينما قلوبهم خالية من الصدق، مجرّدة من النبل، ومثقلة بظلمة الأهواء. فكيف يُرتجى من امرئٍ لم يتطهّر من ضغينة صدره، ولم يذق لذّة الفرح لنجاح غيره، أن يكون أمينًا على مصلحة قرية، أو ناطقًا بعدالة وطن؟ إنّ من لم يُحبّ الخير لأخيه الإنسان، لا يصلح أن يكون حامل همٍّ عام، ولا رسول فكرة تُعلي من شأن الجماعة على حساب الأنا المتورّمة.
ذلك أنّ الأصل في خدمة الأرض والناس، هو الصفاء الباطني، والنية المجرّدة من الأغراض. ومتى خلت النفس من هذه الصفات، فإن كلّ قولٍ بعدها يصبح صدىً أجوف، وكلّ عملٍ مسرحيّة تهوى التصفيق وتستجدي الوجاهة. إن الذي تُؤرّقه رفعة الآخر، ويغصّ قلبه حين يرى من حوله يتقدّم، لا يمكن له أن يُشيد بناءً عامًا، لأنه مأخوذٌ بنفسه، مشغولٌ بإرضاء غروره، لا بمداواة الجراح ولا بترميم الخلل.
ليست الوطنية أن تنطق باسم الوطن، بل أن ترفق بأهله. ليست في رفع الرايات، بل في خفض الكِبر. لا تُقاس بحجم الصوت، بل بعمق الصمت حين يُستَفزّ الحسد. ومن لم يرتقِ بنفسه إلى مقام المحبة المجانية، كيف له أن يُدرك معنى التضحية لأجل الصالح العام؟ كيف لمن ضاق صدره بسعادة جاره أن يتّسع لحلم شعب؟
إن ما نراه من كثرة في الحديث عن العدالة، عن المصلحة، عن الإنقاذ، ليس دومًا نابعًا من غيرة صادقة، بل كثيرًا ما يكون غلافًا لرغبة قديمة في التسلّق، في التملّك، في أن يُشار إليه بالبنان، ولو على حساب الحقيقة. هؤلاء لا يخدمون البلاد، بل يتّخذونها سلّمًا إلى ذاتٍ متعطّشة للثناء، جائعة إلى الضوء.
وما لم تُطهّر النفوس أولًا، لن تُصلح الأوطان. وما لم يُداوِ الإنسان ما بداخله من تناقض وغيرة، فلن تُثمر أقواله مهما ازدانت بالمصطلحات الرنّانة. فالوطن لا يُبنى بالخطابات، بل بالقلوب الصافية، والعقول الرصينة، والأرواح التي تعرف كيف تفرح لغيرها كما تفرح لنفسها، وتعمل من أجل الجميع، لا من أجل مجدٍ فردي زائل.
إن ارتقاء الفرد هو اللبنة الأولى في بناء الجماعة. وإن أول معركة يخوضها الصادق في حبّه لبلده، هي معركته مع نفسه. فإذا انتصر فيها، صَدَق. وإن هُزم، فكل ما بعده زخرفٌ لا يُغني، وجلبةٌ لا تُثمر.



















