زياد العليمي يكتب : صَدْعُ الأُسْطُورَةِ: غَزَّةُ تَنْتَصِرُ... لَا بِالسَّيْفِ بَلْ بِالشُّمُوخِ!"

في لحظات التاريخ الفاصلة، حيث تُرسم الخطوط الحمراء بدماء الأبرياء وتُكتب فصول الملحمات على جبين الصبر، تقف غزَّة... لا كمدينة محاصرة ومكلومة فحسب، بل كرمز أزلي للنصر المُغاير. هذا ليس انتصاراً يُقاس بالبيانات العسكرية الرنانة أو المساحات المستعادة، بل هو انتصار الشموخ الإنساني على آلة الحرب الصماء، ونصر الإرادة على قسوة الحصار، وفوز الرواية على محاولات الإبادة المعرفية. إنها الحقيقة الجدلية التي يرفضها الواقع المادي: نعم، انتصرت غزة، حتى وهي تحت الركام، ورغم الألم والمعاناة والإبادة الجماعية.
كيف يمكن الحديث عن النصر والنزيف ما زال جارياً، والمباني تُسوى بالأرض، وصرخات الثكالى تمزق أثير الصمت الدولي؟ هذا هو جوهر الجدل الذي تخوضه غزَّة. إن النصر هنا ليس نهاية المطاف العسكرية، بل هو فشل الهدف الأسمى للعدوان: كسر الإرادة. لقد كانت الغاية، وما زالت، هي تحويل القطاع من بؤرة للمقاومة إلى أرض خالية من الروح، مجردة من الهوية، خاضعة بالكامل. لكن ما حدث هو العكس تماماً. فكل قذيفة، وكل شهيد، لم تزد الغزيين إلا إصراراً جامحاً على التشبث بالتراب والهواء، حتى باتت قصص صمودهم مادة لدراسة الفلاسفة والمؤرخين.
لقد أرادوا الإبادة، فصنعوا الأبطال. أرادوا محو الذاكرة، فخلقوا ذاكرة جماعية جديدة أكثر رسوخاً وعمقاً. هذا هو النصر المعنوي الذي لا تستطيع الجيوش جرّه، ولا تستطيع القنابل تدميره. هو نصر يُولد من رحم الإذلال، ويستمد قوته من الصمود الأسطوري الذي جعل العالم، رغم صمته الرسمي، يرى بوضوح الوجه القبيح للحرب غير المتكافئة.
الصمود في غزة ليس مجرد فعل سكوني، بل هو فعل مقاومة ديناميكي ومستمر. هو أن يصرّ الأب على تعليم أطفاله تحت خيمة النزوح، أن تواصل الأم إطعام صغارها بفتات الخبز القليل، أن يستمر الطبيب في إجراء العمليات الجراحية على ضوء الهاتف، وأن يعود الناس إلى البحث عن الحياة بين الأنقاض حتى قبل أن يتوقف القصف. هذا التمسك بالحياة في وجه الموت المُتعمَّد هو أعلى درجات الشموخ.
لقد حوّل أهل غزة المعاناة إلى وقود للكرامة. الشموخ هنا ليس استعراضاً للقوة، بل هو رفضٌ صارخٌ للانكسار. هذا الشموخ هو الذي يُحيي الضمائر الميتة في عواصم العالم، ويدفع ملايين البشر للخروج إلى الشوارع رافعين علم فلسطين، مؤكدين أن غزة، الصغيرة جغرافياً، قد أصبحت عملاقاً أخلاقياً في مواجهة آلة القمع العسكرية.
غزة، بألمها، كشفت هشاشة القوانين الدولية وازدواجية المعايير العالمية. في الوقت الذي كانت فيه طائرات الإبادة تحصد الأرواح، كانت غزّة تُقدم درساً في الإنسانية لمن فقدوا إنسانيتهم. هذا الكشف الصادع للحقيقة هو نصر في سجل العدالة التاريخي لن يمحوه الزمن.
غزة... إرث الذاكرة الذي ينتصر على النسيان
إن تكتيك الإبادة الجماعية لا يهدف فقط إلى قتل الأجساد، بل إلى قتل القصة، إلى جعل الضحية مجرد رقم بلا وجه أو تاريخ. لكن غزة انتصرت في هذه المعركة أيضاً. كل بيت دُمِّر هو كتاب سُرِدَت قصته، وكل عائلة أُبيدت تركت وراءها إرثاً من الصمود يُروى من جيل إلى جيل.
غزة اليوم هي ضمير العالم الحي. هي البوصلة التي تضبط اتجاهات الحق والباطل. عندما نُردد "نعم، انتصرت غزة"، فإننا لا نُطلق شعاراً عاطفياً، بل نُقرّ بحقيقة أن هذا القطاع الصغير قد أثبت أن القوة لا تستطيع سحق الحق بالكامل، وأن الروح الإنسانية العميقة أصلب من الفولاذ.
هذا النصر هو بناء المستقبل بالرغم من الدمار. هو الإيمان بأن شروق الشمس سيأتي حتماً بعد أطول ليل. غزَّة لم تخسر حرب الوجود، بل ربحت حرب البقاء والكرامة. ولهذا، فإنها تقف اليوم، مُحطَّمة الجسد لكن عالية الهامة، شاهدة على أن أشرس أشكال الألم يمكن أن يتحول إلى أعظم صور العزة.
غزة انتصرت... لأنها لم تركع. هذا هو العنوان الذي سيكتبه التاريخ بمداد من نور على صفحات الدم والدموع.



















