د. رانيا سامي بدر : بين رائحة الزعتر ونكهة اللاتيه... هوية لا تذوب في عصر العولمة

إذا تجولت في شوارع عمّان اليوم، ستلحظ مزيجاً مثيراً يجمع بين عالمين. على أحد الأرصفة، شاب يعدّ قهوة "لاتيه" أو "كابتشينو" في مقهى يبدو وكأنه قادم من لندن أو نيويورك. وعلى بعد خطوات قليلة، ترى حرفي مسن يبيع سجاداً منسوجاً يدوياً وثياباً مطرزة تحمل في خيوطها حكايات أجيال. هذه هي صورة الأردن في زمن العولمة: مكان يلتقي فيه الماضي بالحاضر كل يوم.
الأردن يعيش توازناً دقيقاً بين جذوره العميقة وواقعه المتغيّر. لا يمكن إنكار أنّ العولمة وصلت إلى كل زاوية في حياتنا، من المقاهي الحديثة إلى أساليب التفكير الجديدة، لكن ما يميّز عمّان أنها لا تفقد ملامحها مهما تبدّلت المظاهر. فبين نكهة القهوة المستوردة ورائحة الزعتر البلدي، وبين الأبنية الزجاجية والأسواق القديمة، تنسج المدينة انسجاماً فريداً يصعب تفسيره.
لقد غيّرت العولمة وجه العالم، والأردن ليس استثناءً. فالتكنولوجيا ووسائل التواصل والعلامات العالمية أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية، خصوصاً عند الأجيال الشابة. ورغم ما يجلبه هذا الانفتاح من فرص وأفكار جديدة، إلا أنه يثير سؤالاً جوهرياً: كيف نتبنّى الحداثة دون أن نفقد ما يجعلنا أردنيين؟ فالهويّة الثقافية ليست ماضياً يُروى، بل نسيجٌ حيّ يوحّد المجتمع من أم قيس ومدرّجات جرش والبتراء الوردية إلى الضيافة البدوية وفن الفسيفساء في مادبا، يعكس تراثنا مزيجاً فريداً من العراقة والتنوّع. غير أنّ هذا التراث يواجه تحدّيات في زمن السرعة، حيث يعرف كثير من الشباب أسماء نجوم عالميين أكثر من معرفتهم بالأغاني الشعبية أو الأمثال القديمة.
ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى التقاليد والحداثة كخصمين. فالأردن قدّم نماذج ملهِمة في الجمع بينهما: مصممون أعادوا ابتكار الثوب التقليدي بروحٍ عصرية، وطهاة مزجوا بين الأصالة والإبداع في المطبخ الأردني، وفنانون نقلوا الفلكلور إلى المنصات الرقمية. ثقافتنا لا تختفي، بل تتجدّد وتتكيّف وتكتسب حياة جديدة.
إن العولمة قدر لا مفرّ منه، لكن فقدان الهوية ليس كذلك والتحدي اليوم هو أن نتمسّك بجذورنا ونحن نواكب التغيير. فالأردن الذي يوازن بين الماضي والمستقبل، لا يحافظ على ذاته فحسب، بل يقدّم درساً للعالم في أن الحداثة لا تُقاس بمدى التشبّه بالآخرين، بل بقدرتنا على أن نكون نحن... بثقةٍ، واعتزازٍ، ووعيٍ بما نملك



















