د.ثروت المعاقبة. تكتب: مملكةُ الخداع.. حينَ تسقُطُ الأقنِعة

هذه القِصَّةُ ليست عن أشخاصٍ نعرفُهُم، ولا عن واقعٍ نعيشُهُ حرفيًّا، بل ضَربِ من الخَيال، تنسِجُ رُموزَها من عالمٍ تتحدّثُ فيه المخلوقاتُ لتكشفَ ما يُخفيهِ البَشر.
كلُّ شخصيّةٍ فيها تمثّلُ وجهًا من وُجوهِ النّفسِ الإنسانيّة: الخُبث، والغُرور، والتلوُّن، والجهل، والبَراءة، والطَّمَع هي مرآةٌ نُطِلّ منها على الواقعٍ المرير الذي نراه في حياتنا.
فلا تبحثْ عن الأسماءِ بينَ السُّطور،
ولا تُفتِّشْ عن الوجوهِ خلفَ الأقنِعة،
ففي "مملكةِ الخِداع" لا يعيشُ أشخاص، بل تتحرَّكُ الرموز فقط، تحكي قصة بشرٍ نسُوا الحقيقةَ، فصاروا يلبَسون الأقنِعةَ حتى صدَّقوها وتعايشوا معها.
في هذا العالمٍ الغريب لا تُقاسُ فيه الحقيقةُ بمصداقيتها، بل بمهارةِ الأشخاص بالتَّنكّرِ والتلوُّن، فهكذا تولد مملكةُ الخداع.
مملكةٌ تتبدَّلُ فيها الوجوهُ كما تتبدَّلُ فصولُ السَّنة، وتُباعُ فيها النَّوايا في سوقِ المظاهر،
ويُكرَّمُ فيها الماكرونَ على حسابِ الأبرياءِ.
هناك، لا يعيشُ الصادقونَ طويلًا، لأنَّ الكَذِبَ صارَ سِلاحًا للبقاء، والرِّياءُ صارَ جوازَ عبورٍ إلى القلوبِ والمناصب، وفي تلك المملكة، تختلطُ الألوانُ وتضيعُ الملامح، فلا يُعرَفُ الصديقُ من العدوّ، ولا يُميَّزُ النّورُ من الظلام.
ومن بينِ أمواجِ البحرِ وغاباتِ الأرض، خرجت مخلوقاتٌ ستروي حكايةَ الغرورِ والخداع، الأخطبوط، والأفعى، والسِّحليَّة، والتيس، والعجل، والجرو، وأخيرًا... الدبّ هم أبطال قصتنا.
ولنبدأ الحكاية.…
في أعماقِ البحر، كانَ هناك أخطبوط يمدُّ أذرعَهُ في كلِّ اتّجاهٍ، يتلوَّنُ كلَّ لحظةٍ بلونٍ جديد، يُخدَعُ الجميعُ بابتسامتهِ اللَّزجة، ويتسلَّلُ بخُبثٍ بينَ الصُّخورِ وهمسَ لنفسه: "أنا لا أُرى، ولكنّني أحرِّكُ الخُيوطَ في الخفاء لا أعيشُ في النور، بل في الظِّلال والزوايا، حيثُ تتشابكُ المؤامراتُ وتُنسَجُ الأكاذيب،
ويُدارُ كلُّ شيءٍ من وراءِ السِّتار."
وعلى اليابسة، كانت الأفعى تزحفُ بخفَّةٍ عجيبةٍ تحتَ العُشب، تُخفي سُمَّها خلفَ كلماتٍ ناعمة، تقتربُ من الجميعِ بابتسامةٍ ملساء، وتهمسُ في آذانِهم ما يُغريهِم ويُضلِّلُهم، ثم تبتعدُ ضاحكةً في سرّها: “من يسمعُ كلامي لا ينجو من لدغتي.”
كانت تعرفُ أنَّ قوَّتها ليست في عضَّتها، بل في قدرتِها على الإقناعِ بالكلمةِ المسمومة.
أما السِّحليّةُ تتقنُ فنَّ التلوّن، تُغيّرُ لونَها بحسبِ مَن أمامَها، تضحكُ مع الجميع، وتتماهى مع الأقوياء، وتختفي عندَ أوّلِ خطر. "أنا لا أنتمي لأحد، بل أنتمي لمن يغلب."قالتها بزهوٍ وهي تهربُ من مسؤوليتها، ظنًّا منها أنّ النّجاةَ في التلوّن، لا في الثَّبات.
في المرعى البعيد، كانَ العَجلُ يبدو بسيطًا،
لكنَّه لم يكن بريئًا كما يظهر لنا، يُصدّقُ كلَّ ما يُقالُ له، ويتبعُ الآخرينَ بلا تفكير، وكان يُستخدَمُ كأداةٍ في أيدي المخادعين، يُروّجُ أكاذيبَهم دونَ وعي، فقط ليحظى برضا القطيع لم يكن شريرًا، لكنه كان سببًا في ظلمٍ لا يُدركه، فالغفلةُ وجهٌ آخرُ من وجوهِ الخداع.
أما التيسُ، فكان صوتُهُ العالي يُغطي على كلّ صوت، يقفزُ من صخرةٍ إلى أخرى، يظنّ نفسَهُ قائدَ القطيعِ وحامي الحق، لكنّه في الحقيقةِ لم يكن سوى بوقٍ لصوتِ الباطل كان يُردّدُ ما يُلقّنهُ الأخطبوط، ويصرخُ بما تهمسُ به الأفعى، ليبدو قويًّا وهو في داخله خواء. "أنا الزعيم!" كان يقولها وهو لا يعلمُ أنّه آخرُ من يعلم، وأوّلُ من يُضحّى به.
وفي طرفِ الغابة، عاشَ جروٌ صغيرٌ طيّبُ القلب، يُصدّقُ الجميعَ ولا يعرفُ معنى الخداع، حين رأى تلكَ المخلوقاتِ تجتمعُ ذاتَ ليلةٍ، اقتربَ ببراءتِه يسألهم:"هل يمكنني مساعدتكم؟" ضحكوا جميعًا، واتّخذوه أداةً جديدةً في لعبتهم القذرة جعلوهُ يلهو أمامَ الآخرين ليصرفَ الأنظارَ عن مكائدِهم، وظنَّ المسكينُ أنّه محبوبٌ بينهم، وهو في الحقيقةِ كان فخًّا يُستخدمُ دونَ أن يدري.
اتّحدَ هؤلاءِ السّتّةُ يومًا على خداعِ مخلوقاتِ الغابة:
الأخطبوطُ وضعَ الخُطّةَ ليحصلَ على مبتغاه.
الأفعى أقنعتِ الآخرينَ بما خطّطَ له الأخطبوط.
السِّحليّةُ نقلت الأكاذيب وغيرت الواقع.
التيسُ صرخَ بالكذبِ حتى صدّقوه فكان الممثل الأكبر في قصتنا على مبدأ "خذوهم بالصوت ليغلبوكم" .
العجلُ روّجَها بينَ أصدقائهِ لمصلحتِه.
والجرو كان وجهَ البراءةِ الذي يُغطي القُبح.
ظنّوا أنّ دهاءهم سيجعلُهم سادةَ الأرضِ والبحر، وأنّ اللهَ غافلٌ عمّا يفعلون، لكنَّ الغابةَ كانت تُعِدّ لهم مصيدةَ العدالة.
وفي يومٍ غائم، اجتمعوا يتفاخرونَ بخداعهم،
وإذا بالأرضِ تهتزُّ تحتهم، فانهارَ المكانُ وسقطوا جميعًا في حفرةٍ عميقة الأخطبوطُ بأذرعِه المتشابكة، والأفعى بعُقدِها الملتوية،
والسِّحليّةُ بلونِها المتبدّل، والتيسُ بصوتِه العالي، والعَجلُ ببلادتِه، والجروُ المسكينُ معهم لا يفهمُ ما حدث.
أرسلتِ السماءُ مطرَها، وغسلت وجوهَهم، فانكشفتِ الحقائق وأزيلت الأقنِعة.
أُخرجَ الجروُ الصغيرُ برحمةٍ من الصيّاد،
بينما تُركَ الباقونَ في ظلامِ الحفرة،
يُواجهونَ نتائجَ ما صنَعوهُ بأيديهم.
وفي تلكَ اللحظة، كان في طرفِ الغابةِ الدبُّ يراقبُ المشهدَ بصمتٍ طويل، لم يكن جزءًا ظاهريا من مؤامرتِهم، لكنه كان يتغذّى عليها.
تركهم يخدعون بعضَهم حتى سقطوا جميعًا،
ثم اقتربَ بخطواتٍ واثقةٍ وقال بابتسامةٍ ماكرة: “شكرًا لكم… فقد أزلتُم بعضَكم بأنفسِكم، والآن الغابةُ لي وحدي.”
استولى على ما تبقّى من طعامِهم ومواقعِهم،
وأعلنَ نفسَهُ سيّدَ الغابة ضحكَ عليهم جميعًا،
إذ لم يكن بحاجةٍ إلى الخداع، فقد جعلهم هم الخُدعة، لكن ما لم يُدرِكهُ الدبّ، أنّ الصيّادين لم يحفروا حفرةً واحدة…
بل أعدّوا حفرةً ثانيةً أكبر أمامَ العرشِ الذي جلسَ عليهِ مغرورًا.
وما إن خطا بخطوتهِ الأولى نحوَ التملّك،
حتى انزلقت قدماه وسقطَ في ظلامِ العدالةِ الذي لا يرحم.
حينها دوّى صوتُ الحقّ في الغابة: "الظّلمُ لا يدوم، ومن يخدع غيرَهُ يخدع نفسَهُ أوّلًا،
ومن ينسِجْ خُيوطَ الكذبِ... سيُكوى بها في النهاية."
سكنتِ الغابةُ بعدَ العاصفة، وعادَ الصّمتُ يروي حكايةَ الذينَ ظنّوا أنَّ الذكاءَ يُنجي من العدالة، لكنَّ الزّمنَ علَّمَ المخلوقاتَ درسًا لا يُنسى: أنَّ القناعَ قد يحجبُ الحقيقةَ لبعضِ الوقت، لكنَّه لا يستطيعُ أن يُخفيها إلى الأبد.
حكايةُ مملكةٍ بُنيت على الكذب، وانتهت حين سقطت الأقنعة....بعدالة السماء.



















