لما جمال العبسه : إعمار مشروط باستعمار ناعم

في زيارته الأخيرة إلى تل أبيب، أطلق مبعوث الرئيس الامريكي دونالد ترامب الى دولة الكيان الصهيوني جاريد كوشنير تصريحات تكشف عن منطق سياسي بالغ الخطورة، يعيد إنتاج أدوات الحصار والابتزاز تحت غطاء إعادة الإعمار، ففي مؤتمره الصحفي أعلن أن المناطق الخارجة عن السيطرة الإسرائيلية والتي تصل الى 52% من مساحة قطاع غزة اي تلك التي تديرها حركة المقاومة حماس لن تُخصص لها أموال إعادة الإعمار، ما يعني أن الإعمار لن يُمنح إلا لمن يخضع للشروط السياسية التي تفرضها القوى الامبريالية الصهيوامريكية ان صح التعبير.
هذا التصريح لا يمكن اعتباره مجرد رأي سياسي، بل هو إعلان عن استراتيجية استعمارية ناعمة، تُستخدم فيها أدوات التمويل لإعادة هندسة السلطة في غزة، وتصفية خيار المقاومة من خلال التجويع المدني.
هذا المنطق، يُعيد تعريف الإعمار لا كاستحقاق إنساني بعد حرب مدمرة، بل كأداة عقاب جماعي، فالمساعدات تُمنح فقط لمن يتخلى عن المقاومة، ويقبل بالسيطرة الإسرائيلية غير المباشرة، وهذا يعكس تحولا خطيرا في وظيفة المساعدات الدولية، من كونها وسيلة دعم إنساني إلى أداة لإعادة تشكيل الخريطة السياسية وفقا لمصالح الاحتلال الصهيوامريكي، فحين يُشترط التمويل بزوال المقاومة، فإن المدنيين يُستخدمون كورقة ضغط، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، الذي ينص على عدم التمييز في تقديم المساعدات، وعلى حماية السكان المدنيين من الابتزاز السياسي.
منطق الهيمنة الناعمة، والسيطرة عبر أدوات التمويل والتنسيق الدولي، يُعتبر احتلالا أكثر فتكا، لأنه يُخفي أدواته خلف شعارات انسانية، بينما يُعيد إنتاج البنية الاستعمارية ذاتها، فالمطلوب ليس فقط نزع سلاح المقاومة، بل نزع معناها السياسي والأخلاقي، وتحويلها إلى عائق أمام التنمية، بدل أن تكون تعبيرا عن السيادة والكرامة.
بالتوازي، نائب الرئيس الامريكي جي دي فانس في زيارته لتل ابيب امس الاول افتتح «مركز التعاون العسكري المدني لإعادة بناء غزة»، وكأنه يكمل اغلاق الحلقة بشكل محكم على القطاع، فيقرر هو ومبعثو البيت الابيض مع حكومة العدو الصهيوني المتطرفة ما سيتم مناقشته في المرحلة الثانية لاتفاقية انهاء الحرب في القطاع، على اعتبار ان المقاومة الفلسطينية تحصيل حاصل وستقبل بكل ما يرد منهم.
في تحليل لاهداف هذا المركز، فانه يُقدَّم كواجهة إنسانية، يحمل في جوهر حقيقة تُخفي وظيفة أمنية استراتيجية، لإعادة تشكيل البيئة الأمنية في القطاع، على اعتبار ان المقاومة ستقوم بتسليم سلاحها فهذا الشرط الذي سيضمن مستقبلاً افضل لقطاع غزة المُعاد احتلاله بطريقة اكثر حضارة في ظاهرها، وقد يشمل أطرافا إقليمية أو شركات أمنية خاصة، اي الوجه الثاني لـ «مؤسسة غزة الانسانية» لكنها اكثر فتكا.
ما سبق يعتبر مدخلا لإعادة هندسة السلطة والمجتمع، اي إنه منطق «السلام مقابل نزع السيادة»، وتُحوّل غزة إلى مختبر لتجريب أدوات السيطرة الناعمة تحت غطاء إنساني. الأمر الذي يفرض تفكيك الخطاب في الإعلام العربي والدولي باعتباره ابتزازا إنسانيا، والمطالبة بإعادة الإعمار وفقا للقانون الدولي، لا وفقا لشروط الاحتلال، ولابد من إعادة بناء خطاب سياسي يُعيد الاعتبار للمقاومة كحق مشروع، لا كعقبة أمام التمويل.
إن تصريحات دي فانس وكوشنير ليست مجرد موقف سياسي، بل تعبير عن منطق دولي يُعيد إنتاج الاحتلال بأدوات ناعمة، وفي زمن تُعاد فيه صياغة الأخلاق الدولية وفق مصالح القوة، يصبح من الضروري أن نعيد تعريف الإعمار كحق سيادي، وأن نواجه أدوات الابتزاز التي تُمارس باسم الإنسانية، فالقطاع لا يحتاج إلى إعمار مشروط، بل إلى تحرر غير قابل للمساومة



















