د. دانييلا القرعان. تكتب :رحلتي إلى الجنوب

البتراء، المدينة الوردية التي تنبض بين ضلوع الصخر كأنها قلب الوطن حين يخفق بالعزة والعراقة. هناك، كل حجر يروي حكاية حبٍّ قديم، وكل ظلٍّ يُهمس باسم نبطيّ مرّ من هنا وترك صوته في الجدران. ومن بين صخورها سأنحدر إلى وادي رم ذاك المسرح السماوي الذي تلتقي فيه الأرض بالسماء في صلاةٍ من الضوء والرمل، هناك تصمت الكلمات ويعلو صوت سكون كأن النفس تجد ذاتها بين مهبّ الريح وحنين الغروب.
ثم تمضي بي الخطى إلى العقبة، ثغر الأردن الباسم، تضحك للموج وتفتح ذراعيها للبحر الذي يشبه قلب نشمي أردني، صافٍ، دافئ، ومليء بالحياة. وهكذا يمضي الجنوب بي، لا كرحلة عابرة، بل كقصيدةٍ من صخرٍ وماءٍ وسماء. وقريبًا... إلى طابا إن شاء الله، لأكمل ما بدأته في دروب الحلم، فالأفق ما زال يدعوني، والجنوب ما زال في دمي... وردةً لا تذبل. .
لحظة لا تُنسى…
أنا الآن في وادي رم جنوب الأردن في قلب الصحراء التي تخطف الأنفاس بجمالها الهادئ، وسحرها الذهبي، والرمال تمتد بلا نهاية، والجبال تلمع تحت ضوء الغروب بلونٍ نحاسيّ ساحر، الهواء نقيّ كأنك تتنفس السلام ذاته. فهنا، الصمت يتحدث، والوقت يهدأ، والنفس تجد راحتها بين سكون الجبال، واتساع الأفق. وادي رم ليس مجرد وجهة سياحية، بل تجربة تغمر روحك بالدهشة والسكينة... مكان يجعلك تؤمن أن في بساطة الطبيعة جمالًا لا يُقارن. أنصح كل من لم يزر رم أن يمنح نفسه فرصة ليعيش هذا السحر، ولو مرة في العمر.
من قلب صحراء رم، حيث تمتد الكثبان الذهبية بلا نهاية، تنبثق رائحة الحطب المشتعل بهدوء كهمس سر قديم، الدلة البدوية تغلي ببطىء، والقهوة تصرخ في صمتها بخرير خفيف، أما الشاي فيراقص دخان النار ليترك على الشفاه نكهة دافئة، حيث كل رشفة قصيدة تروي حكاية الرمال والريح والشمس الغاربة.
هنا، ليس الطعم وحده الذي يأسرك، بل اللحظة، ودفء النار بين الأصابع، وبواقي ضوء الشمس الذائب في الأفق، والنسيم العابر الذي يحمل همسات الصحراء، القهوة والشاي على الحطب في هذا المخيم، ليسا مجرد شراب، بل شعور بالحرية، ودفء اللقاء والأهم الرفقة الرائعة في اطار سحر المكان الذي يشبه الحلم... إلى العقبة… ثغر الأردن الساحر، مدينة تتكئ على البحر كما تتكئ القصيدة على قافية الحلم، أسير إليها والريح ترافقني، كأنها تعرف أنني ذاهب إلى مكانٍ لا يُزار بل يُعاش،هناك، حيث تحتضن الجبال زرقة الماء، وحيث تمتدّ الصحراء لتغسل تعبها بموج البحر، وحيث للنسيم نكهة ملحٍ ودفء حطبٍ قديم. في العقبة، يصبح الوقت بطيئًا، كأنه يتأمل نفسه في صفحة البحر وتتحول الرتابة إلى موسيقى، والهدوء إلى لغة لا يفهمها إلا القلب.
تتسلل الطمأنينة إلى روحك من غير استئذان، وتشعر أن كل شيء هنا يشبهك… بسيط، صادق وعميق، وهناك، ستتقاطع النظرات مع ابتسامات الناس الطيبين وستجد في عيونهم دفء الجنوب ونقاء الموج، وفي المساء، ستشتعل السماء بألوان الغروب، ويغدو الأفق لوحة من نار وذهب، تُكتب عليها قصيدة عشقٍ لا تنتهي. إلى هناك أمضي، حيث يلتقي الرمل بالماء، والحلم بالسكينة وحيث الجمال لا يُرى بالعين فقط بل يُحسّ بالقلب فالعقبة ليست وجهة بل حالة من السلام ودفقة من الدهشة وذاكرة من ضوء، دائماً الأجواء في كل رحلة الى العقبة (كما يقولون)، ينقصها رفيقٌ بسّام يمتهن نظم الشعر على الهواء مباشرة. أمشي حافية على الرمل، كأنني أعود إلى الأرض التي خُلقتُ منها، كل خطوة تهمس لي: اهدأ، لا شيء يستحق العجلة.
الرمال دافئة، ناعمة، تحتضن قدميّ كأمٍّ حنونٍ تفتح ذراعيها لطفلها العائد من ضياعه، أشعر بأن الأرض تسحب عني ما تراكم من تعبٍ وهمّ، كأنها تمتص حزني، وتزرع مكانه طمأنينة صافية. الريح تمرّ خفيفة، تداعب وجهي، وتُذكّرني أن الحرية ليست في الرحيل، بل في أن تتصالح مع كل ما فيك.
على الرمال، لا أحمل شيئًا سوى نفسي، ولا أسمع سوى صوت الرمل وهو يردد ما لم أجرؤ على قوله:
أنك بخير، ما دمتِ قريبة من الأرض.



















