أ. د. ليث كمال نصراوين : الدلالات الدستورية في خطبة العرش الملكية

افتتح جلالة الملك الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة العشرين بإلقاء خطبة العرش أمام مجلسي الأعيان والنواب، والتي جاءت متميِّزة في مضامينها، حاملةً رسائلَ سياسية داخلية وخارجية تجسّد رؤى القيادة الملكية الحكيمة، وأهمها ثبات الموقف الأردني وقدرته على تجاوز الصعوبات والتحديات الجسام التي لحقت به، والتي لم تؤثر فيه أو تمس أمنه وسيادته الوطنية.
فقد اعتبر جلالة الملك أن "الأردن كان قدره أن يولد في قلب الأزمات، والتي لم تكن يومًا استثناءً في مسيرته، بل كانت رفيقته منذ البدايات". وفي هذا القول إشارة واضحة وصريحة إلى المادة الأولى من الدستور، التي تنص على أن "المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية مستقلة ذات سيادة، مُلكها لا يتجزأ ولا يُنزل عن شيء منه". فمهما تعرضت الدول المحيطة بالأردن لأزمات وظروف استثنائية، ستبقى المملكة مستقلة وذات سيادة، ولن يتمكن أحد من المساس بوحدتها أو التطاول على شبر من ترابها الوطني.
وبأسلوب الأب القائد شارك جلالة الملك الحاضرين مشاعره الإنسانية بطرح سؤال مفاده "أيقلق الملك؟"، فكانت الإجابة الملكية "بأنه يقلق لكنه يخاف الله ولا يهاب شيئًا، وفي ظهره أردني حامي الحمى، فهو، والحمد لله، أثمن ما يشتد به القائد". وفي هذا البوح الملكي دلالة واضحة على الأحكام الدستورية الواردة في المادة (6) من الدستور، التي تنص على أن "الدفاع عن الوطن وأرضه ووحدة شعبه والحفاظ على السلم الاجتماعي واجب مقدس على كل أردني"، وأن المواطنة وسيادة القانون هي مبادئ دستورية يقوم عليها نظام الحكم في الأردن.
وعلى الصعيد المحلي، أعاد جلالة الملك التأكيد على طبيعة العلاقة الدستورية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بقوله إن الأردن قطع شوطًا ليس بالقليل في مجال الإصلاحات الشاملة، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً، وأنه يقع على هذا المجلس "مسؤولية متابعة ما تم إنجازه في مسار التحديث السياسي، وتعزيز العمل الحزبي النيابي المكرّس لخدمة الوطن"، إلى جانب الاستمرار في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي وتطوير القطاع العام.
فبصفته رئيسًا للسلطة التنفيذية، يشير جلالته إلى الجهود الحكومية المبذولة في سبيل تحقيق التحديث الوطني الشامل، وأنه يتعين على السلطة التشريعية — ممثلةً بمجلسَي الأعيان والنواب — العمل لمتابعة الإنجازات التي تحققت. فعلى الصعيد السياسي، أشار جلالة الملك إلى أنه يتعين على مجلس النواب تعزيز العمل الحزبي داخل المجلس المنتخب، وهو الأمر الذي بدأت ملامحه تظهر بشكل إيجابي من خلال اتفاق الكتل النيابية على تشكيلة المكتب الدائم في الدورة العادية الثانية. إلا أن هذا التفاؤل مصحوب بالحيطة والحذر من المبالغة؛ إذ ينبغي أن يتسع نطاق العمل الكتلوي المؤسسي الذي أسفر عن تقاسم المقاعد في المكتب الدائم ليشمل الأداء النيابي على الصعيدين التشريعي والرقابي.
وفيما يخص الإصلاحات الاقتصادية والإدارية، فإن مسؤولية مجلس النواب تكمن في إقرار مشاريع القوانين ذات الصلة بحرفية ومهنية، وفي مقدمتها قانون الإدارة المحلية الجديد الذي ستقدمه الحكومة، وستُجرى على أساسه الانتخابات البلدية والمحلية القادمة، وفي هذا السياق أكد جلالة الملك بأننا "لا نملك رفاهية الوقت ولا مجالًا للتراخي" في هذا المجال.
وبالنسبة للتحديات الخارجية التي تعصف بالدولة الأردنية، أشار جلالته إلى الحروب والصراعات التي تشهدها منطقتنا منذ عقود، مؤكداً أن "الأردن يحميه جيش عربي مصطفوي، سليل أبطال كانوا وما زالوا حماة للأرض وسياجًا للوطن". ولهذا القول تأصيل دستوري، إذ تنص المادة (127) من الدستور على أن "مهمة الجيش هي الدفاع عن الوطن وسلامته"، كما أن الملك هو القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية والجوية عملاً بأحكام المادة (32) من الدستور.
وفي معرض تعبير الملك عن اعتزازه بالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، أتى جلالته على ذكر "الحسين" بقول إنه أول الشباب الأردني وأنه جندي من جنود هذا الوطن. وفي هذا القول إشارة واضحة وصريحة للدور الذي يقوم به سمو الأمير الحسين، ولي العهد، في دعم الشباب والعمل على تمكينهم في المساهمة بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتنمية قدراتهم ودعم إبداعاتهم وابتكاراتهم.
وكعادته اختتم جلالته خطبة العرش بالتأكيد على الموقف الأردني الثابت من القضية الفلسطينية، وأننا "سنبقى إلى جانب الأهل في غزة الصامدون بكل إمكانياتنا، وقفة الأخ مع أخيه"، وبأن الأردن لن يقبل باستمرار الانتهاكات في الضفة الغربية. فهذا الموقف الملكي يعد تجسيدًا لما ورد في المادة الأولى من الدستور التي تؤكد على أن "الشعب الأردني جزء من الأمة العربية".
فالدلالة الدستورية لعلاقة الشعب الأردني بالأمة العربية تكمن في التزام الأردنيين بمدّ يد العون لكافة الأشقاء العرب ضمن الإمكانيات المتاحة للدولة، وهو ما تجلى في وصف جلالة الملك للأردني بأبهى الأوصاف حين قال إنه "حامي الحمى الذي فتح بابه فانتصر للضعيف ولَبَّى نداء المستغيث". فالشعب الأردني، من جهة، حريص على الدفاع عن أمنه وسيادته الوطنية، ومن جهة أخرى يواصل مدّ العون والتضامن مع أشقائه العرب، لتتجلى بذلك رؤية القيادة الملكية الحكيمة القائمة على التوازن بين الواجب الوطني الداخلي والدعم العربي الخارجي.
* أستاذ القانون الدستوري في الجامعة الأردنية



















