+
أأ
-

د. هيفاء ابو غزالة : حين تتحوّل الذاكرة إلى وطن .. قراءة في سيرة الدكتور صبري ربيحات

{title}
بلكي الإخباري

وصلتني نسخة من السيرة الذاتية للدكتور صبري ربيحات كما تمنّيت، ارسلتها إليّ رفيقة الرحلة والاخت العزيزة نسرين أبو صالحة بعدما تعذّر عليّ حضور حفل تدشين الكتاب. وصلت النسخة ليلاً إلى مكتبي في البيت، هادئة في ظاهرها، لكنني ما إن لمست صفحاتها حتى شعرت بأنها تحمل بين دفّتيها وهج سنواتٍ أعرف ملامحها وتفاجئني تفاصيلها. بدأت أتصفّحها بنية الاطلاع، فإذا بي أغوص في سردٍ يأخذ بيد القارئ من السطر الأول، ويعيده إلى زمن من العمل والأسفار والمواقف التي صنعت الكثير من محطاتنا الإنسانية والمهنية.

منذ الفجر الأول لليوم أدركت أنني أمام كتاب لا يُقرأ بل يُعاش. فالسيرة هنا ليست نصاً مكتوباً بمداد الحبر، بل ذاكرة نابضة، ودهشة متجدّدة، ورحلة ممتدة بين مدن وحكايات وأمكنة تركت في الكاتب، وفي كل من عايشه، أثراً لا يزول. ومع كل صفحة، كنت أعبر مع الدكتور صبري منعطفات حياته، وكأنني أرافقه من جديد في تلك السنوات التي جمعتنا في بعض فصولها في العمل الميداني، وفي رحلاتٍ لا تُنسى، وفي اكتشافاتٍ لا تزال تلهمنا حتى اليوم.

من عمّان إلى قطر… ثم إلى كاتماندو، في أحد فصول الكتاب، يأخذنا الدكتور صبري إلى رحلته نحو قطر، ومنها إلى تلك الرحلة الفريدة التي قادتنا معاً إلى كاتماندو، عاصمة نيبال. كانت بداية الطريق صدفة مهنية عابرة، لكنها تحوّلت إلى مشروع إنساني متكامل، هدفه إعداد برامج تدريب للعاملات الآسيويات وتحسين شروط حياة المرأة الآسيوية في الشرق الأوسط مهمة تتجاوز حدود العمل التقليدي إلى الدفاع عن كرامة الإنسان في أكثر صورها هشاشة.

بهذا الحس الإنساني العميق، ينسج الدكتور صبري رواية لا توثّق التجربة فقط، بل تفتح بوابة واسعة للتأمل في أوضاع العمل، والتنمية، والنساء اللواتي يقفن خلف الستار بينما تشكّل أدوارهن العمود الفقري للمجتمعات.

يمتلك الدكتور صبري قدرة استثنائية على تحويل المكان إلى بطلٍ روائي. يكتب عن المدن كما لو أنه يرسمها؛ يقترب من الناس كما لو أنه يصغي لنبض قلوبهم؛ ويلتقط تفاصيل الحياة اليومية بحسّ صحفي دقيق ورهافة إنسان عاش التجربة بكل أبعادها.

يُشعرنا في كل فصل أننا نسافر معه: نمرّ في الأزقة، نسمع الأصوات، نرى الوجوه، ونقف أمام الخيارات التي تصنع مسار الحياة.

هذه السيرة ليست مجرد اعترافات شخصية أو توثيق لمراحل مهنية؛ إنها مرآة لمرحلة عربية مهمة، دخلت فيها قضايا التنمية والسياسات العامة دائرة الضوء. يقدّم الدكتور صبري تجربته بوصفه فاعلاً في قلب الأحداث، متنقلاً بين ملفات دقيقة وبلدان متعددة، واضعاً المعرفة والخبرة في خدمة الإنسان قبل أي اعتبار آخر.

إن سيرة معالي الدكتور صبري ربيحات تضيف إلى المكتبة العربية شهادة صادقة، تمنح القارئ معنى، وتعيد للذاكرة دورها كخزان للحكمة وتجارب الحياة.

إنه كتاب يؤرخ لا لنفسه فقط، بل لجيل كامل عاش التحولات العربية الكبرى، وانحاز إلى الوطن والإنسان والقيمة.

إنه كتاب يذكّرنا لماذا نكتب.. ولماذا نتذكر