+
أأ
-

أ. د. ليث كمال نصراوين : خدمة العلم كما يريدها ولي العهد

{title}
بلكي الإخباري

 

صدرت الإرادة الملكية السامية بالموافقة على قانون خدمة العلم والخدمة الاحتياطية المعدل لعام 2025، في خطوة تشريعية تهدف إلى ترجمة رؤى وتطلعات الأمير الحسين ولي العهد في إعادة تفعيل خدمة العلم بآلية جديدة، تتجاوز الصورة النمطية التقليدية للخدمة الإلزامية نحو نموذج وطني حديث يقوم على الإعداد والتأهيل وبناء المهارات وتعزيز قيم الانضباط والمسؤولية لدى جيل الشباب.

ويأتي هذا التعديل في سياق وطني تتعاظم فيه الحاجة إلى تعزيز الهوية الوطنية وصقل شخصية الشباب الأردني بدنيًا وفكريًا، وغرس قيم العمل والمثابرة وتحمل المسؤولية، إلى جانب تعريفهم بمؤسسة الجيش وقيمها الراسخة في العطاء والالتزام، بما يحقق الفائدة المرجوة من رفد سوق العمل بجيل من الشباب الواعي المتزن المدرك لتطورات العصر، مع الحرص في الوقت نفسه على عدم الإضرار بحقوقهم التعليمية أو تعطيل مسارهم الأكاديمي.

وعلى الرغم من أن التعديلات الأخيرة قد طالت خمس مواد فقط من القانون الأصلي، إلا أن أثرها يتجاوز هذا العدد المحدود إلى فلسفة تشريعية جديدة تنظم العلاقة بين الشباب المكلفين بخدمة العلم ومؤسساتهم التعليمية، من خلال إعادة ضبط عملية التأجيل وتحقيق توازن حقيقي بين الواجب الوطني والحق في التعليم، في إطار ينسجم مع نهج الدولة في تحديث الإدارة وتمكين رأس المال البشري.

ولعل أول ما يلفت النظر في هذا التعديل هو الاتجاه الواضح للحد من التأجيل غير المنضبط لخدمة العلم الذي تراكم عبر العقود الماضية؛ إذ تم إلغاء الحكم الذي كان يجيز للطلبة على مقاعد الدراسة داخل المملكة تأجيل خدمة العلم، وقصر هذا الحق على الطلبة الأردنيين الدارسين في الخارج. وبذلك لم يعد التحاق المكلف بالدراسة داخل الأردن سببًا مبررًا لتأجيل خدمة العلم كقاعدة عامة، باستثناء الطلبة الملتحقين بتخصصات تُدرَّس وفق نظام السنوات كالطب وطب الأسنان، ممن تقتضي طبيعة دراستهم تنظيما خاصًا لمواعيد استدعائهم.

فهؤلاء الطلبة، إلى جانب الدارسين في الخارج، يثبت لهم الحق في تأجيل الخدمة لا الإعفاء منها، في رسالة تشريعية واضحة بأن خدمة العلم أصبحت واجبًا وطنيًا جامعًا يشمل الجميع، وأن التأجيل يجب أن يرتبط بضوابط محددة لا تتوسع بغير مبرر، بما يعيد الانضباط إلى عملية الاستدعاء ويحقق المساواة بين المكلفين ويحد من استغلال ثغرات القانون للتهرب من أداء الواجب.

ومن التعديلات المهمة أيضًا استحداث حكم خاص يتعلق بتأجيل خدمة المكلفين الذين تثبت إقامتهم خارج المملكة عند دعوتهم للخدمة، وهي خطوة عملية تعالج إشكالات واقعية واجهت آلاف الأردنيين المقيمين في الخارج، ممن كانت ظروفهم الأسرية والمعيشية والوظيفية لا تنسجم مع آليات الاستدعاء السابقة. وبموجب هذا التعديل، أصبح معيار الإقامة الفعلية سببًا مستقلًا للتأجيل لا للإعفاء، بما يعزز العدالة في التطبيق ويقرّب النص القانوني من واقع المجتمع الأردني الممتد خارج الحدود.

أما على المستوى التربوي والتأهيلي، فقد جاء تعديل المادة (14) ليعبر عن التحول الأعمق في فلسفة خدمة العلم بحلتها الجديدة؛ إذ ينص القانون المعدل على أن تقوم القيادة العامة للقوات المسلحة، وبالتنسيق مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بتضمين خدمة العلم محاضرات وبرامج تدريبية يمكن للطالب المكلف احتسابها ضمن متطلبات الدراسة في الجامعات والمعاهد والكليات الجامعية المتوسطة، بما يجعل الخدمة جزءًا متكاملًا مع المنظومة التعليمية.

ويمثل هذا التعديل تطورًا نوعيًا ينقل خدمة العلم من إطارها العسكري التقليدي إلى فضاء أوسع، يتيح للطالب أن يستفيد أكاديميًا من البرامج التي يتلقاها خلال الخدمة، وأن يحتسب جزءًا منها ضمن متطلبات التخرج في الجامعات الأردنية، من خلال معادلة بعض البرامج والمحاضرات بمتطلبات جامعية إجبارية مثل العلوم العسكرية والتربية الوطنية. وبهذا تتحول خدمة العلم إلى محطة تطوير للذات واكتساب للمهارات، بدلًا من أن تكون فترة انقطاع عن الدراسة الجامعية.

ولم يغفل المشرع الأردني حقوق الطلبة الذين سيتم استدعاؤهم لخدمة العلم؛ إذ أضاف في المادة (25) حكمًا صريحًا ينص على احتفاظ الطالب المكلف بمقعده الجامعي في الجامعات والمعاهد الرسمية والخاصة خلال فترة خدمته. ويكتسب هذا النص أهمية اجتماعية واضحة، لكونه يبدد مخاوف الأسر من فقدان أبنائها لمقاعدهم أو انقطاعهم عن مسارهم الأكاديمي، إذ سيعود الطالب إلى جامعته فور انتهاء خدمته دون مساس بحقوقه التعليمية، مع إمكانية معادلة جزء من الساعات العسكرية التي تلقاها، بما يعزز الطمأنينة ويؤكد أن الخدمة ليست عائقًا أمام التعليم بل جزءًا متكاملا مع مساره.

وفي خطوة تعكس التزامًا بمبدأ تكافؤ الفرص، ألغى القانون المعدل الحكم التشريعي الذي كان يمنح أولوية في التعيين للمكلفين الذين أنهوا خدمة العلم، لتعود عملية التوظيف إلى معايير الكفاءة والاستحقاق بعيدًا عن الامتيازات غير المرتبطة بالأداء أو بالمؤهلات العلمية. وينسجم هذا التعديل مع فلسفة الإصلاح الإداري، ويضع الخدمة في إطارها الحقيقي كواجب وطني لا كطريق مختصر للحصول على وظيفة عامة.

إن التعديلات الأخيرة على قانون خدمة العلم لا تستهدف إعادة إنتاج النموذج القديم، بل تؤسس لمرحلة جديدة تقوم على مبادئ الانضباط، والدمج مع التعليم، وتطوير المهارات، وتحقيق العدالة في التأجيل والاستدعاء. وهي خطوة إيجابية نحو تعزيز حضور الشباب في مشروع الدولة الحديثة، وترسيخ قيم المواطنة الفاعلة، وبناء جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل بثقة ومعرفة وانضباط