+
أأ
-

أ.د. محمد الفرجات يكتب : إذا اهتزت أوروبا… كيف يجب أن يستعد الأردن؟ قراءة استشرافية في الاحتمال والتداعيات

{title}
بلكي الإخباري

 

لم تعد أوروبا، كما عرفناها لعقود، ذلك القطب المستقر اقتصاديًا وسياسيًا والقادر على لعب دور الضامن للنظام الدولي المتوازن. ما نشهده اليوم من أزمات متراكبة في القارة الأوروبية، من ركود اقتصادي، وصعود تيارات شعبوية متطرفة، وأزمات طاقة وغذاء، وتراجع في الثقة بالمؤسسات، يفتح الباب أمام سيناريو لم يكن مطروحًا بهذه الجدية من قبل: أوروبا أقل قدرة، أقل سخاء، وأقل حضورًا.

هذا الاحتمال، حتى وإن لم يصل إلى حد “الانهيار الشامل”، يحمل في طياته تداعيات مباشرة على دول تعتمد في جزء من استقرارها على توازن النظام الدولي، وفي مقدمتها الأردن.

الأردن ليس بعيدًا عن أوروبا، لا جغرافيًا فقط، بل اقتصاديًا وسياسيًا وتنمويًا. فالاتحاد الأوروبي أحد أهم الداعمين للأردن في ملفات اللاجئين، والتعليم، والطاقة، والمياه، والتنمية المحلية. وأي تراجع أوروبي سيعني ببساطة تقلصًا في الموارد، وتشددًا في شروط الدعم، وانكفاءً عن قضايا الجوار.

لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في تراجع الدعم بحد ذاته، بل في استمرارنا في التفكير وكأن هذا الدعم مضمون ودائم.

اقتصاديًا، فإن أول ما سيتأثر هو الموازنة العامة، ثم سوق العمل، ثم الاستثمارات، ثم السياحة. أوروبا تمثل سوقًا رئيسيًا للسياحة الأردنية، وخاصة السياحة الثقافية والبيئية التي تشكل رافعة أساسية لمحافظات مثل معان والطفيلة والكرك والعقبة. أي ركود أوروبي طويل سيضرب هذه القطاعات في الصميم، وسيعيد إنتاج الفقر والبطالة في الأطراف، ما لم نكن قد أعددنا بدائل ذكية.

أما في ملف الطاقة والغذاء، فإن أوروبا لاعب محوري في سلاسل الإمداد العالمية. ضعفها أو اضطرابها يعني ارتفاعًا مستوردًا في الأسعار، وضغطًا إضافيًا على بلد يعاني أصلًا من شح المياه ومحدودية الموارد. هنا، يصبح الحديث عن الأمن الغذائي والمائي ليس ترفًا فكريًا، بل قضية سيادة وطنية.

سياسيًا، فإن تراجع الدور الأوروبي يفتح فراغًا دوليًا. وهذا الفراغ لا يُملأ دائمًا بقوى أكثر حكمة أو توازنًا. الأردن، الذي بنى سياسته الخارجية على الاعتدال والدبلوماسية والشرعية الدولية، قد يجد نفسه في عالم أقل إنصاتًا، وأكثر خشونة، ما يتطلب مضاعفة الاعتماد على القوة الداخلية بدل الاتكاء على التوازنات الخارجية.

لكن، ورغم قتامة الصورة، فإن الأزمات الكبرى تحمل دائمًا فرصًا لمن يقرأها مبكرًا.

الأردن يمتلك ما تفتقده كثير من الدول: الاستقرار، رأس مال بشري جيد، موقع جغرافي استراتيجي، وسمعة سياسية متوازنة. إذا أحسنا استشراف الاحتمال الأوروبي، يمكن تحويل الخطر إلى نافذة إعادة تموضع.

أولًا، عبر الانتقال الحقيقي من اقتصاد ريعي يعتمد على المنح إلى اقتصاد إنتاجي معرفي. البرمجة، والخدمات الرقمية، والتعليم العالي النوعي، يمكن أن تشكل مظلة أمان للأجيال القادمة، بعيدًا عن تقلبات الأسواق التقليدية.

ثانيًا، عبر إعادة تعريف السياحة، ليس كأرقام زوار فقط، بل كاقتصاد محلي مستدام منخفض الكربون، مرتبط بالتراث والطبيعة والإنسان. السياحة البيئية، الجيولوجية، والتعليمية، قادرة على الصمود حتى في أوقات الركود إذا ما أُديرت بذكاء.

ثالثًا، عبر الاستثمار الجاد في الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، ليس فقط لتوليد الكهرباء، بل كمدخل لصناعة جديدة وتصدير معرفة، بدل الاكتفاء بدور المستهلك.

رابعًا، عبر تمكين المحافظات، لا بالشعارات، بل بنقل صلاحيات حقيقية، وبناء اقتصاد محلي قادر على الصمود دون انتظار قرار مركزي أو منحة خارجية. لا دولة قوية دون أطراف قوية.

إن السؤال الحقيقي ليس: ماذا يعني انهيار أوروبا على الأردن؟ بل: هل سنبقى ننتظر ما سيحدث هناك، أم سنبني مناعتنا هنا؟

الدول لا تُقاس بقوة حلفائها فقط، بل بقدرتها على الوقوف عندما يضعف الحلفاء. واستشراف المستقبل لا يكون بالخوف منه، بل بالاستعداد له، وبناء خيارات وطنية تقلل كلفة الصدمات القادمة.

ربما تهتز أوروبا، وربما لا. لكن المؤكد أن العالم يدخل مرحلة إعادة تشكيل كبرى. وفي هذه المرحلة، لا مكان للدول التي تعيش على الافتراضات القديمة. هناك فقط مكان للدول التي قررت أن تكون سيدة قرارها، حتى في أصعب الظروف.