أعراض النكبة الوراثية !

لا أدري بالضبط متى بدأت تظهر عليّ أعراض النكبة ؟! أنا ولدتُ بعد ها بـ خمس سنوات في مخيم للاجئين كان من بقايا ثكنة عسكرية لجيش الانتداب الفرنسي الذي اجليّ عن سوريا قبل سنتين من النكبة أي في 17 نيسان 1946 الذي صار عيد الجلاء الذي كنا نحتفل به فيما بعد في مدرسة الاونروا في المخيم .
كنت طفلا في مخيم " الثكنة " الذي أخذ اسمه يبدو من الثكنة العسكرية الفرنسية على أطراف مدينة حمص في سوريا ، لم أكن اشعر وقتها بأي أعراض للنكبة مثل كل الأطفال الذين يمرضون ولا تسعفهم أعمارهم الغضة لان يقولوا للطبيب ماذا يوجعهم ، او لعل الأطفال قطعا صغيرة من اللحم البشري ممسوحة الوعي ، هي دفاتر بيضاء تكتب السنوات وعيهم صفحة صفحة ، ولم أكن أدري ان النكبة من الأمراض الوراثية التي ينقلها جين أب منكوب الى أطفاله فيصبحوا منكوبين أبا عن جد !
في هذا الصباح الاسكندنافي الملبد بالغربة ؛ والنكبة تستعد لدخول عامها الـ 73 .. وأنا صغيرها الذي ولد بعدها بـ خمس سنوات .. أتقاسم معها شيخوختها في هذا المنفى السويدي الأشقر ، وأحاول النبش في الذاكرة عن الأعراض الأولى للنكبة التي ظهرت في دفاتر وعي طفولتي البيضاء في لعبة مريرة يمارسها الطبيب في ما يسمى الفحص السريري لمعرفة التاريخ المرضي للمصاب .
" البركس " .. الوعي الأول للنكبة .. والبركس هو عبارة عن اسطبلات الخيول للجيش الفرنسي في الثكنة التي تم اسكان اللاجئين الفلسطينيين فيها في مخيم الثكنة في حمص ، الذي اطلق عليه فيما بعد مخيم العائدين ، لا أملك من الوعي لكي أصف شكل " البركس " وعيت صوته قبل صورته فتحت أذني قبل عيني على صوت هطول المطر على سقف الصفيح للبركس ، ذلك الصوت الذي يشبه تهليله أمي لأنام ، لا أنسى صوت هطول المطر على صفيح "البركس " الذي كان يمتزج أحيانا بصوت بابور الكاز في الصباح الماطر في سمفونية اللجوء الأولى ، لم تكن تلك الأعراض وقتها كافية لتشخيص النكبة على طفل مفتوح الأذنين بين صفيح "البركس " وبابور الكاز ، ولا حتى توزيع " الاعاشة " التي كانت تقدمها وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين " الاونروا " لسكان "البركسات " كانت أيضا كافية لظهور أعراض واضحة للنكبة ! لا يملك الأطفال عادة ترف المقارنة بين حياتين عادية وغير عادية ، طالما هم يولدون اساسا في حياة واحدة يفتحون عليها أعينهم الصغيرة .
كان المخيم "غيتو " فلسطيني للاجئين لا يسكنه السوريون ليجعلك تقارن بين حياة اللاجئ والمواطن ، ولم يكن لطفل مثلي هذا العناء بعد ليكتشف حياة أخرى مختلفة خارج المخيم بلا بركسات ، تمطر السماء على سقوفها الاسمنتية بصمت.. كنا لاجئين مع لاجئين تحت سقف بركس واحد نصغي لنشيد المطر فوق الصفيح بقنوط الغرباء في بلاد ليست بلادهم .
وحتى حين ذهبت الى الصف الأول في مدرسة الاونروا التي سميت على اسم قريتي في فلسطين .. مدرسة الشجرة ، وكان خالي المرحوم فؤاد ياسين أول مدير لها ومع ذلك لم تشفع لي تلك القرابة عند أستاذ الشيخ الذي هو الشيخ علي ابن لوبية أستاذ الصف الاول ، الذي كان الأستاذ الوحيد الذي ينفرد بان تكون طاولته في الصف خلف مقاعد التلاميذ وليس أمامهم .. والى الان لا أجد تفسيرا لذلك ، ولي مع عصا هذا الشيخ ذكريات توجع الكفين ، وحتى في مدرسة الشجرة لم تظهر علي أعراض النكبة لأني كنت تلميذا لاجئا مع تلاميذ لاجئين نتنقل في صفوفها من سنة الى اخرى .
وان كنت في هذا الصباح الاسكندنافي لا يروق لي مرارة الاسهاب في تفاصيل حياتي لأتحدث عن الأعراض الأولى للنكبة التي ولدت مصابا بها بالوارثة ، ولاختصار أرجو ان يكون مفيدا أقول : بدأ تكون شعوري في النكبة عندما شعرت اني مختلفا ، حين صار المخيم يحتك بالمدينة في مرحلة دراستي الثانوية في مدارس الأشقاء السوريين في حمص ، صار اسمي " الفلسطيني " يخاطبني الجميع بهذا الاسم .. ومنذ " الفلسطيني " صارت أعراض النكبة واضحة عليّ بالعين المجردة ، ولا أحتاج الى فحص سريري ، ولا تاريخ مرضي لأثبت هذا ، وكان عليّ نفي شائعة حمقاء سادت وقتها المجتمع الحمصي البسيط ان للفلسطيني ذيل ! ولا أعرف متى بالضبط كفت أعين السوريين عن التحديق في مؤخرة الفلسطينيين للبحث عن الذيل المزعوم ، ولكني في فترة دراستي الجامعية أدركت ان الذيل الوحيد الذي يملكه الفلسطينيون هو ما بقي لهم من بلادهم وتم بترهم عنه في نكبة أصابتهم بمرض وراثي .. هو ببساطة ما يجعل والدي المنكوب يتزوج من منكوبة ويخلف أطفالا منكوبين .. أنا واحد منهم ، الذي تزوج من منكوبة ورزقت بثلاث بنات منكوبات تزوجن من منكوبين وخلفن لي أحفادا أيضا منكوبين ، وأنا في هذا الصباح السويدي أحدّق في وجه حفيدي المنكوب الذي يغفو تحت سقف بيت سويدي وثير يهطل عليه المطر هامسا ، وأكتب عن طفولتي تحت صفيح البركس في مخيم العائدين الذين لم يعودوا بعد 73 عاما من نكبة عجوز تستعد لزيارتي هنا في السويد آخر الدنيا بينها وبين " ذيلي " في الجليل بعد القارات ، ويهطل المطر في الصباح صامتا صمت هذه الامة التي تتفرج على نكبتها تكبر أمام عينيها كل عام منذ 73 عاما .. وهي تقطع رؤوس بعضها وتصيح : تكبير !
الكاتب الصحفي خالد عيسى - السويد



















