+
أأ
-

حسام الحوراني : جابر بن حيّان.. حين اشتعلت عبقرية العرب في قارورة وأصبح الحبر علمًا، والغبار مجدًا

{title}
بلكي الإخباري

كيف يُعقل أن يكون في عالمنا العربي اليوم مئات الآلاف، بل ملايين من حملة الشهادات الجامعية والدراسات العليا، من الماجستير والدكتوراه، في الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والرياضيات وعلوم الحاسوب، وجميع التخصصات ، ومع ذلك، لم تُسجَّل لنا خلال العقود الماضية اختراعات أو ابتكارات ثورية حقيقية تُحدث قفزة نوعية في العلم الحديث؟ كيف تحوّل العلم عندنا إلى أوراق مؤطرة على الجدران، بدل أن يكون وقودًا لنهضة؟ أهو نظام التعليم الذي ربما يكون عقيما ويقتل روح الاكتشاف؟ أم هي تربية وثقافة وغياب البيئة التي تحفز الفضول وترفع المبدعين؟ أم أننا ببساطة نُعلّم الحفظ ونُهمل الفهم، نُكرم الشهادة ونُقصي الفكرة؟ سؤال موجع، لكنه ضروري... لأن أمةً لا تصنع من علمها قوة، تظل أسيرة لمن يفعل.

في قلب الوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، وبين ركام التحديات اليومية، تنام طاقات جبّارة في صدور الشباب العربي... عقول تلمع كالمعادن النفيسة، وأحلام تختبئ خلف العيون المتعبة، تنتظر ايقاظ النيه والارادة والعزيمية للابتكار والاختراع والريادة وقيادة العلوم الحديثة. وبينما يلهث العالم نحو المستقبل، ما زال فينا من يظن أن الإبداع حكر على الغرب، وأن الاختراع لا يولد إلا في مختبرات الآخرين. لكن الحقيقة أعظم من ذلك بكثير، فدماء العظماء ما زالت تجري في عروقنا، وأرواح العلماء ما زالت تسكن بيننا.

لعلّ أنقى تجسيد لهذا المجد هو رجل من ترابنا، عاش قبل اكثر من ألف عام، لكنه فكّر بجرأة كأنّه من أبناء الغد. إنه جابر بن حيّان، العربي الذي صنع من القوارير ثورة، ومن التجارب نهضة، ومن الرماد علمًا خلدته الأمم. هذه ليست مجرد قصة تاريخية بل مرآة لكل شاب عربي يشعر أن مكانه في العالم لم يُكتب بعد. إنها دعوة إلى كل من آمن أنه يستطيع، أن يبدأ- الآن. من هنا. من الوطن العربي. من قلبك أنت، فالعلم هو المقتاح!

قبل الف واربعمائة سنة تقريبا، وفي زمنٍ كان يُحسب فيه العلم على الملوك والكهنة، وتُغلق أبواب المعرفة أمام العامة، وُلد صبي في الكوفة، لم يكن وزيرا ولا ابن وزير ولا ابن عائلة غنية مرفهة، بل ابن صيدلي بسيط من أهل الكوفة. لم يعرف أحد أن هذا الطفل سيُصبح يومًا مؤسس الكيمياء الحديثة، وأن اسمه سيتردد في جامعات العالم لقرون قادمة. إنه جابر بن حيّان، الرجل الذي لم يكتفِ بأن يحلم، بل كتب الحلم في معادلات، ودوّنه في مخطوطات، وصنع من المجهول علمًا قائماً بذاته.

جابر لم يُولد في مدينة علم، ولا تلقّى علومه في قاعات فاخرة. وُلد في قلب صراع فكري وسياسي، حيث سقط والده شهيدًا في وجه الطغيان، ولم يترك له سوى تركة من الحروف والفضول. تربّى يتيماً، لكنه لم يكن ضعيفًا. اختار أن يتسلح بالمعرفة بدل أن ينكسر، وأن يصوغ مستقبله من أبخرة الزيوت والمعادن لا من دموع اليتم. بين أروقة الكوفة ثم في بيت الحكمة ببغداد، بدأت رحلته في صناعة التاريخ.

لكن جابر لم يكن مجرد تلميذ نجيب. كان شغوفًا حدّ الهوس، لا ينام إلا وقد دوّن فكرة، ولا يهدأ إلا بعد أن يرى تفاعلًا ينبض بين يديه. لم يُرعبه احتقار المجتمع للكيمياء، يوم كانت تُسمى «خيمياء السحرة»، ولم تُثنه التهم التي لاحقته بأنه يخوض في علوم محظورة. بل زادته إصرارًا أن العلم لا يُذلّ، وأن من يُنير العقول، لا يخشى الظلام.

في غرفة صغيرة في بيته، كان جابر يطهو التجارب كما تُطهى الأحلام. يمزج الزئبق بالكبريت، ويغلي المعادن، ويُقطر الزيوت، ثم يُدون النتائج، حرفًا حرفًا، بتركيز عالم وإصرار فارس. لم يكن لديه مختبر حديث، ولا تمويل من سلاطين، لكنه امتلك ما لا يُشترى: الفضول الذي لا يشبع، والعزيمة التي لا تُكسر.

من أبرز كتب جابر بن حيان ومؤلفاته والتي غيّرت وجه العالم: كتاب السموم ودفع مضارها، نهاية الإتقان، أصول الكيمياء، الرسائل السبعون (السبعينية)، الموازين الصغير، كتاب المئة والاثنا عشر، كتاب الخمسمائة، كتاب الرحمة الكبير، كتاب الخواص الكبير، كتاب الحديد، كتاب الزهرة، استقصاءات المعلم، الوصية الجابرية، المستحلب الكبريتي، ومختار رسائل جابر بن حيان وغيرها الكثير..... كتبٌ تُدرّس ويقتبس منها اليوم في أوروبا وأمريكا وكل العالم، وما تزال تُبهر علماء الكيمياء والفيزياء حتى هذا العصر. إنه أول من تحدّث عن الأحماض والمحاليل، عن التفاعلات والإذابة. لقد سبق زمنه بقرون، وكان يؤمن أن العالم ليس سوى مختبر ضخم، وأن الله أودع في خلقه أسرارًا تنتظر من يكشفها.

كان جابر بن حيّان أعجوبة زمانه، لم يكتفِ بتأمل الكون، بل فكّكه وأعاد فهمه من جديد. يُنسب إليه أكثر من 300 كتاب في الكيمياء والفيزياء والطب والفلسفة، لكن أعظم إنجازاته تمثّلت في وضع الأسس العلمية للتقطير، التبلور، والتصفية – تقنيات ما زالت تُستخدم حتى اليوم. هو أول من اكتشف ماء الذهب (الماء الملكي) ، وأول من فصل الكبريت والزئبق كمادتين أساسيتين في تفاعلات المعادن، وصنع الحبر غير المرئي، وابتكر حمض الكبريتيك والنتريك والكلوريد، وميّز بين المواد القابلة للاشتعال وغير القابلة. لم يكن عالمًا عابرًا، بل صانع علم، ومهندس مستقبل، ومُلهم أجيال.

جابر لم يكن مجرد عالم معادلات، بل كان فيلسوفًا، شاعرًا، مؤمنًا بأن العلم لا يُفصل عن الأخلاق، وأن كل تجربة هي عبادة، وكل اكتشاف هو تقرّب للخالق. كان يرى في العناصر الأربعة: الماء، النار، الهواء، والتراب، لغة سرّية تتحدث عن خفايا الكون، وكان يحاول أن يُعيد ترجمتها إلى لغة يفهمها البشر.

لكن كما كل العظماء، لم يكن طريقه مفروشًا بالورود. تعرّض جابر للنبذ من بعض معاصريه، وشكّكوا في علمه، واتهموه بالسحر، بل أحرقت بعض كتبه علنًا. لكنه لم يتوقف. كان يؤمن بأن الأمة لا تنهض إلا إذا احترقت في أفران العلم، وانصهرت في بوتقة المعرفة.

واليوم، ونحن في عصر الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم، يعود اسم جابر ليُدوَّن من جديد، ليس فقط في كتب التاريخ، بل في معادلات المستقبل. ما كان يفعله جابر يدويًا على مدى شهور، تفعله اليوم الخوارزميات في دقائق، لكن جوهر الفكرة لم يتغير: أن الفضول هو محرك التقدم، وأن شباب الأمة إذا امتلكوا أدوات العلم، امتلكوا مفاتيح العالم.

لو عاش جابر في عصرنا، لكان أول من يحتضن الذكاء الاصطناعي، ويزرع الكيوبتات داخل أنابيب تجاربه. كان سيحاكي الذرات بنماذج كمومية، ويجعل من الذكاء الصناعي شريكًا في تحليل التفاعلات الكيميائية، ويبتكر لقاحات، ويُصمم بطاريات خضراء، ويطوّر أساليب إنتاج الطاقة. كان سيقف في قلب الثورة التكنولوجية، لا على هامشها.

لكن الأهم من كل هذا، أن جابر كان سيُخاطب شباب العرب، كما أخاطبهم الآن: أنتم لستم خارج الزمن، أنتم صانعوه. أنتم لستم تابعين للتكنولوجيا، بل أنتم قادتها. لا تجعلوا أسماء مثل «أينشتاين» تُرعبكم، فقد سبقه جابر والخوارزمي وابن الهيثم وغيرهم الكثير. لا تنقصكم العبقرية، بل الثقة. لا تنقصكم القدرة بل النية والارادة والعزيمة.

لو كان جابر بن حيّان بيننا اليوم، لقال للشباب العربي: «لا تنتظروا المعجزات، بل كونوا أنتم معجزة هذا العصر. لم أكن أكثر من يتيم يحمل شغفًا وسؤالًا، لكنني صنعت من الفقر علمًا، ومن الألم طريقًا، ومن التجربة مجدًا. وأنتم اليوم تملكون من الأدوات ما لم نحلم به، فماذا تنتظرون؟ انهضوا بالعلم، وابتكروا بإيمان، واصنعوا للكون بصمتكم، فالأمم لا تنهض بالخُطب، بل بالعقول التي لا تخشى الفشل، وبالقلوب التي تؤمن أن النور يبدأ من الداخل.»

ما أحوجنا اليوم إلى جابر في كل مدرسة، وفي كل مختبر، وفي كل مشروع ناشئ. ما أحوجنا إلى شباب لا يهابون الفشل، بل يعتبرونه بداية التجربة. ما أحوجنا إلى من يؤمن أن قارورة التجربة أغلى من ألف محاضرة، وأن التجريب ليس ترفًا بل حياة.

من تراب الكوفة وُلد رجل هزّ أساسات الفكر الغربي، وأسس علمًا جديدًا من لا شيء. من قلب القهر والحرمان، سطّر أعظم منجزات الكيمياء. ومن عباءة الفقر، غزل خيوط المجد. اليوم، بين أيديكم أدوات لم يحلم بها جابر: جامعات مفتوحة، ومكتبات رقمية تضم ملايين الكتب، وأجهزة حاسوب وهواتف ذكية أقوى من أول الحواسيب العملاقة، وذكاء اصطناعي يستطيع أن يُساعدكم في التفكير والتجريب، بل وحتى في الابتكار. أنتم الجيل الذي يمكنه أن يطوّع حواسيب الكم، ويُحاكي الطبيعة، ويصنع في سنوات ما كان يستغرق قرونًا. لا تنتظروا الفرصة، بل اصنعوها كما صنعها جابر يوم لم يكن هناك «فرصة». لا تنتظروا دعمًا، بل ابدأوا ولو من حجرة صغيرة في قريتكم، كما فعل هو. ففي كل واحد منكم جابر نائم، ينتظر أن توقظه لحظة صدق، وقرار شجاع.

لا حجة لكم في عصرٍ فيه المعلومة على بُعد نقرة، والتجربة على شاشة، والمختبر في راحة اليد. من غرفكم الصغيرة، يمكن أن تولد أعظم أفكار البشرية، فقط إن آمنتم بأنكم قادرون. فلا تنتظروا أن يُفتح الباب، بل اصنعوا مفاتيحكم بأنفسكم، وابدأوا الآن.واعلموا أن الابتكار لا يورّث، بل يُنتزع من سؤال وفكره.»

قد لا يذكرك احفادك غدًا، لكن ستذكرك الإنسانية إن أنرتَ طريقًا، أو فتحتَ باب علم، أو ساعدتَ غيرك على الحلم. وقد لا تُكتب سيرتك في الكتب، لكنها ستُروى في عيون من ألهمتهم. لأنك ببساطة، قررت أن تكون... أن تُجرب، أن تَصبر، أن تُبدع، وأن تترك أثرًا. أن الله يفتح أبواب الخلود لمن طرقها بعقل وقلب وأخلاق. لا تخشوا الفشل، فكل تجربة فاشلة هي خطوة نحو اختراع خالد. ولا تنتظروا من يُمسك بكم، امسكوا أنتم بمصيركم. فأنتم الامل... وأنتم النور.

فيا جابر... من غرفتك الصغيرة التي فاض منها البخار والعطر والمعرفة، إلى جامعات أكسفورد والسوربون وMIT، بقي اسمك نورًا في ظلمة الجهل. وها نحن اليوم، نروي قصتك ليس فقط لنمجّدك، بل لنقول: ما زالت الأمة قادرة أن تُنجب، أن تُبدع، أن تنهض…

وفي هذا السياق، تأتي كلمات سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني في منتدى تواصل 2025، لتُكمل مشهد الإلهام الذي جسّده جابر بن حيّان منذ قرون. فقد أشار سموه بوضوح إلى أن الأردن يجب أن يكون في طليعة الدول التي تبتكر لا تلك التي تنتظر. دولٌ تُقاس بما تنتجه من أفكار، لا بما تستهلكه من أدوات. تمامًا كما كان جابر بن حيّان رمزًا لصناعة الفكر لا استهلاكه، فإن خطاب سمو ولي العهد أعاد التأكيد على أن العلم والإبداع هما الركيزة الحقيقية لأي نهضة. وبين عبقرية الماضي المتمثلة بجابر، وطموح المستقبل المرسوم في خطاب سموه، تلتقي رؤيتان في لحظة واحدة: أمة تملك الإرث، وتملك القدرة، وتحتاج فقط أن تؤمن بأن نهضتها تبدأ من داخلها. هذا الربط بين عبق التاريخ وطموح الحاضر هو ما يجعل من كلمات سمو الأمير استمرارًا لحكاية العلماء العظام، ورسالة بأن ما بدأه جابر، يمكن لكل شاب أردني وعربي اليوم أن يُكمله، وأن يكتب سطرًا جديدًا في كتاب الحضارة.

لقد أسرني هذا العالم الجليل بكل ما فيه من تواضع وعظمة، من علم وإيمان، من عقل مشتعل وقلب خاشع. كلما قرأت عن جابر بن حيّان، انتفض جسدي وشعرت أنني أمام رجل سابق لعصره بألف عام، ولكنه أقرب إلينا من كثيرين حولنا. لم أرد أن تبقى قصته في بطون الكتب القديمة، بل أن تصل إلى قلوب شباب هذا الجيل، لتوقظ فيهم شرارة السؤال، وشغف الاكتشاف، وكرامة الإبداع والايتكار. أردت فقط أن أقول لكل شاب عربي: لا تيأس من تأخرك، ولا تخجل من بدايتك، ولا تهرب من حلمك... فانه من يتقِ ويصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.

ما زال فينا جابر، وفي كل شاب عربي حالم... بذرة من عبقك العظيم يا جابر…

فهل من مدكر؟