فيجا ابو شربي. تكتب : فقر مُركّب

كان الفقر في القرن الماضي حالة يمكن احتمالها. قاسية نعم، لكنها واضحة، مفهومة، يمكن التعامل معها بمعايير بسيطة: طعامٌ محدود، لباسٌ مستهلك، منزلٌ متواضع، وحلمٌ مشروع بالارتقاء عبر التعليم أو الحرفة. كان الفقير يعرف فقره، لكنّه لا يخجل منه؛ كان يرى الطريق أمامه، طويلًا أو شاقًا، لكنه موجود. وكان يشعر أن العالم ـ وإن قسا عليه ـ لا يزال يعترف بوجوده، ويمنحه فرصة، ولو صغيرة، لتجاوز عثراته.
الفقر في القرن الماضي كان فقراً مادياً في الأساس، تُقاس حدّته بكمية الخبز على المائدة، وعدد الأغطية في ليالي الشتاء. لكنه لم يكن مرتبطًا بالنبذ الاجتماعي أو الإقصاء النفسي كما هو الحال اليوم. بل كثيرًا ما أنتج هذا الفقر وجوهًا نبيلة، وأرواحًا متعفّفة، وعقولاً لامعة حملت على عاتقها قضايا الأمة والمعرفة والفن. كان الفقر يُعلّم، ويُهذّب، ويصنع شخصيات عصامية تؤمن بأن الاجتهاد وحده كفيل بأن يُثمر.
أما اليوم، فالفقر لم يعُد مجرد عوزٍ في المال، بل تحوّل إلى فقر مركّب يشمل العجز عن اللحاق بالعالم، وعن فهم أدواته، وعن التكيّف مع منظوماته الجديدة. لم يعد الفقير يفتقد إلى الغذاء والدواء فقط، بل يفتقد إلى حقه في الوجود الكامل داخل مجتمع رقمي متسارع لا ينتظر أحدًا.
الفقير اليوم مُستبعَد من منظومة العمل، من التعليم الجيد، من الرعاية الصحية المتقدمة، من الثقافة، من السفر، من القرار. كل شيء بات مربوطًا بكود إلكتروني، بطاقة ذكية، اشتراك شهري، أو تطبيق رقمي. حتى الحلم نفسه لم يعُد مجانيًا.
لقد صار الفقر الآن حالة من التهميش المنهجي. وكأن المجتمع يطرد من لا يمتلك أدواته الحديثة، أو لا يستطيع شراء حضوره فيه. وهذا يُنتج جيلًا من البشر المشوّهين نفسيًا، الذين لا يشعرون بالانتماء، والذين يعتادون الإقصاء إلى حدّ التوحّش أو الانسحاب
الفقر الآن لم يعُد محفّزًا للنجاح كما كان. لأن النجاح اليوم لا يتطلب اجتهادًا فقط، بل شبكة علاقات، وموارد، وصدف، ومنصات لم يعُد الفقير يملك سُبل الوصول إليها. لم يعُد من السهل أن يخرج من الأحياء المكتظة طبيب أو شاعر أو مفكّر، بل يخرج غالبًا من لم يعد يثق بالقانون، ولا يحلم بالعدالة، ولا يعرف وجهًا آخر للعالم غير الحيلة والقسوة.
ولعل انتشار الجريمة في هذا القرن يُعزى في جوهره إلى هذا النوع الجديد من الفقر، الذي لا يصقل الروح بل يفتك بها. لم يعُد الفقر كما في السابق دافعًا للنجاح، بل صار طريقًا نحو الانحراف. حين تُسدّ الأبواب أمام الأمل، يُفتح باب واحد للغضب والتمرد والجريمة والتي أصبحت بالنسبة لكثيرين وسيلة للبقاء، لا خروجًا عن القانون بل صرخة في وجه مجتمع لا يعترف بوجودهم.
من هنا، لا تُجدي المعالجات المؤقتة، ولا الشعارات. المطلوب إعادة بناء الإنسان، لا فقط ترميم جيبه. المطلوب هو عدالة تُشعر الفقير أنه شريك لا عبء، وأن الحياة لا تدار فقط بالأرصدة بل بالإنصاف.
الفقر القديم كان ينتج علماء، أما الفقر الجديد، فينتج ضحايا.
ولا نجاة من هذا المسار إلا بأنسنة المجتمع من جديد، وإعادة الحق في الحلم لكل إنسان، مهما كان.



















