+
أأ
-

د. محمد رسول الطراونة : ربح البيع: البروفيسور العجلوني

{title}
بلكي الإخباري

في مشهد يكرّر مأساة العقل العربي في الغرب، لم تكن قصة البروفيسور كامل العجلوني مع الجمعية الأمريكية للأطباء سوى فصل جديد من فصول "ربح البيع" ، فبعد أن نال التكريم على علمه وإنجازاته، سُحبت منه العضوية على إثر محاضرةٍ قال فيها كلمته بصراحة الباحث الذي يعرف أن الحقَّ قد يُغضب، لكن الصمتَ عنه جريمة. القصة ليست مجرد خلاف أكاديمي عابر، بل هي نموذج صارخ للازدواجية التي تحكم تعامل المؤسسات الغربية مع العلماء والمفكرين العرب، حيث يُشترى صمتهم بثمن التكريم، وعندما يرفضون البيع، تُسلَب منهم الأوسمة.

من المفارقات اللاذعة أن تُقدم الجمعية ذاتها التي كرّمت البروفيسور العجلوني على مسيرته الطبية الحافلة، على إسقاط عضويته ، هذا التناقض لا يعبّر عن تغيّر في قيمة علم الرجل أو منجزه بين يوم وليلة، بل يكشف عن طبيعة العقد غير المعلن الذي تفرضه مثل هذه المؤسسات: " نحن نكرمك طالما أن خطابك يقع ضمن الدائرة التي نرسمها لك، ويخدم الصورة التي نريد تقديمها عن أنفسنا كمنارة للتسامح والتعددية ". التكريم هنا ليس غايةً، بل هو وسيلة للاستمالة والاحتواء، هو "عربون" يُدفع مقدماً مقابل الولاء المستقبلي ، وعندما خرج البروفيسور العجلوني ، بكل براءة الأكاديمي الذي يعتقد أن ساحات العلم هي للجدال لا للمجاملة، عن النصّ المُعدّ سلفاً، تم سحب " العربون" فوراً. لقد فهموا أن هذه السلعة (العالم العربي المتميز) ليست قابلة للتدجين، فقرروا ( باعتقادهم ) إعادتها إلى الرف.

تتغنى المؤسسات الغربية، ومنها العلمية، بشعار حرية التعبير وتعتبره من ثوابتها المقدسة ، لكن هذه الحرية، في الممارسة الفعلية، تكشف عن وجهها الانتقائي ، إنها حرية ممنوحة بحساب، تزدهر عندما تنتقد " الآخر" ( الشرق، العالم العربي ، الإسلام ) وتضمر عندما تمسّ مواقف أو سياسات أو رموزاً تعتبر من "الممنوعات" أو " التابوهات " الغربية نفسها. محاضرة البروفيسور العجلوني، والتي يُفترض أنها كانت ضمن سياق أكاديمي نقدي، لم تُقَيّم على أساس منهجيتها العلمية أو قوة حجتها، بل على أساس مدى تطابقها مع الرواية السائدة والمريحة و اللافت أن العقاب لم يأتِ على شكل ردّ علمي أو مناظرة فكرية تثبت خطأ ما جاء فيه، بل جاء على شكل قرار إداري جائر بإسقاط العضوية، وهو أقرب إلى "الحرمان" أو "النبذ" منه إلى الرد العلمي ، إنه قتل للرسالة بقتل الرسول، لأنه من الأسهل إسكات الصوت من مواجهة الحجة.

تستدعي هذه الحادثة أشباح الاستشراق القديم، لكن بصيغة جديدة ، ففي الماضي، كان المستشرق يدرس الشرق من فوق برجه العاجي، محكوماً بمركزية غربية متعالية. اليوم، يُدعى العالم العربي إلى برجهم، يُكرّم ويُستضاف، ولكن بشرط أن يروي "حكايته" باللهجة التي يريدونها هم، لا باللهجة التي تمليها عليه حقيقة واقعه وأبحاثه ، هو استشراقٌ من داخل البرج، يُستخدم فيه "الخبير المحلي" كدليلٍ لإثبات فرضياتهم المسبقة، لا كشريكٍ في تشكيل المعرفة. عندما يتحول هذا الدليل إلى ناقدٍ يقلب الطاولة على تلك الفرضيات، يتم التخلص منه فوراً، لكن البروفيسور العجلوني خرج عن الدور الذي طلبوه كـ "دليل سياحي" في متحف الشرق الأوسط الذي تديره الجمعية، فكان مصيره سحب العضوية منه.

في النهاية، من هو الخاسر الحقيقي؟ بالطبع الجمعية الأمريكية للأطباء، التي أظهرت للعالم أن حريتها الأكاديمية هشة وقابلة للكسر عند أول اختبار حقيقي، وأن قيمها تخضع لحسابات سياسية وليس للمعارف العلمية. لقد قدّمت الجمعية، بقرارها هذا، خدمة مجانية للبروفيسور العجلوني، فقد رفعته من كونه عالمًا متميزًا إلى رمزٍ للمثقف والمفكر العربي الحر الذي يرفض أن يُشترى أو يُسكت، والذي يفضل أن يخسر عضويةً في جمعية على أن يخسر مصداقيته العلمية وضميره المهني.

أما البروفيسور نفسه، فقد "ربح البيع" بامتياز، فهو لم يبع صمته بثمن التكريم الزائف، ولم يرهن حريته الفكرية في سوق النخاسة الأكاديمية. لقد خسر عضويةً ورقيةً لا تقدّر عطاءه، لكنه ربح مكانةً أخلاقيةً وعلميةً تضع اسمه في قائمة الأساتذة الذين دفعوا ثمناً للحقيقة، فكانوا بذلك خير سفراء للعلم الحقيقي غير المُزيّف،القضية ليست عن العجلوني وحده، بل هي عن كل عقل عربي يُدعى إلى الغرب ليُكرّم، ثم يُهان عندما يصرّ على أن يكون صوتاً لا صدى، وعالماً لا دمية. لقد ذهبت الجمعية الأمريكية للأطباء بسلعتها الرخيصة ( العضوية)، لكن البروفيسور العجلوني ربح ما لا يُقدّر بثمن: كرامة القول، وحرية الفكر، واحترام كل من يؤمن بأن العلم رسالة سامية لا تُباع في سوق المقايضات، مبارك معالي " ابو صخر " فقد ربحت البيع كما ربحه ابو الدحداح رضي الله عنه .

أمين عام المجلس الصحي العالي السابق