+
أأ
-

ضرار البستنجي يكتب :- العدوان على قطر، أسئلة ودلالات .

{title}
بلكي الإخباري


لايبدو ،وقد انقشع غبار العدوان، أن حدثاً مزلزلاً كقصف طيران الاحتلال عدة مناطق في العاصمة القطرية الدوحة سيغيّر نحو الأفضل من واقع الاستسلام والهوان الذي تعيشه معظم المنطقة إزاء المشروع الأمريكي الذي يضطلع الاحتلال بتنفيذه المباشر صحبة أدوات واشنطن الأخرى ، سيما وأن الحدث الهائل ليس عابراً او منفصلاً عن سياق التغيير العميق والخطير المتصاعد والمتراكم عبر عقود ، والدموي بشكل غير مسبوق منذ بدء العدوان على غزة وقوى المقاومة منذ نحو عامين .

رسائل كثيرة ودلالات عميقة حملها العدوان على الدوحة ، وإن ظلّت أسئلة كثيرة بلا إجابات مقنعة ، سيما تلك التي تتعلق بحقيقة الهدف العملياتي المباشر للقصف الذي تجاوز كثيراً من الخطوط الحمر ، وخلط كثيراً من الأوراق في وقتٍ تأخرت فيه لساعات الرواية الرسمية القطرية، وبدا فيه الارتباك سيد الروايتين الأميركية والصهيونية والذي يبدو مقصوداً ومتفقاً عليه.

لم يفلح إذاً اعتدال الشقيقة قطر ولا تماهيها ، حد التنفيذ والتمويل، مع مشاريع واشنطن الاستعمارية الماضية في إطباق هيمنتها على المنطقة وتغيير هويتها وأوزان أطرافها وصولاً إلى تغيير خريطتها، في تجنيبها ويلات المخطط المرسوم ، ولا شفعت الاستثمارات وآلاف المليارات والاضطلاع الاستثنائي في فرض الكيان على الوعي الجمعي العربي عنصراً طبيعياً في المنطقة لحليف واشنطن البارز الذي جرى تصنيفه بالأمس القريب (حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)). ولعل في ذلك درس كبير ودلالة لاتقبل تأويلاً ولا اجتهاداً ، فهذا الكيان ومشاريع سيده الأميركي عدو لكل المنطقة، لايفهم إلا لغة القوة والمواجهة ولاتقتصر أهدافه على احتلال فلسطين التاريخية أو التوسع في جوارها، وإن كان ثمة مايجب أن يندم عليه معسكر (الاعتدال العربي) فهو التخلي الطوعي عن المخالب ، بل ومساعدة الأميركي في إضعاف أو إسقاط كل نظام أو قوة تواجه مخططاته وتتبنى المقاومة أو المواجهة مع مشاريعه في المنطقة التي تتضاءل فرص نجاتها مع كل مخلبٍ ساهم بعض هؤلاء في اقتلاعه أو إضعافه أو تشويهه في الذهن العربي.

في السياق المباشر للحدث أعلن العدو سريعاً وبصلفه المعهود أنه نفذ ضربة جوية استهدفت قيادة حركة حماس والوفد المفاوض في ضواحي العاصمة القطرية، بل وأعلن على غير عادته أن أهداف العملية المباشرة قد نجحت معزّزاً روايته بالأسماء ومُجدداً تحديه المنطقة برمتها قبل أن تعلن الدوحة أن العملية (لم تنجح) في النيل من قادة الحركة، وإنْ ارتقى شهداء من أسرة القيادي البارز خليل الحية وكادر مكتبه إلى جانب شهيد من عناصر الأمن القطري . ورغم أن الجانب القطري كما قيادة حماس لم تقدّم بعد روايتها المتكاملة، ولا أكدت بوضوح أن أحداً من القادة ،المجتمعين لبحث مقترح ترمب لوقف العدوان على غزة ، لم يصب بأي أذى ؛ فالثابت أن ثمة مايتجاوز حدود الاغتيال حتى ولو صحّ أن أمراً ما قد أربك العملية وحال دون نجاحها في وقت حضر فيه مجدداً الخداع الأميركي وتغطية العدوان، فبدت قطر مكشوفة تماماً أمام الطيران الحربي الصهيوني وبلا ظهير يلجم عدوان الاحتلال، مايضيف إلى التساؤلات المشروعة سؤالاً كبيراً حول غياب الصيني والروسي عن تداعيات الحدث وعن الحليف التركي الوازن الذي يمتلك قاعدة عسكرية على الأراضي القطرية ويعتبر قطر حليفاً استثنائياً لطالما تعاونا معاً في كثير من ملفات المنطقة واستحقاقاتها.

اختلطت الروايات والقراءات إذاً ، وابتعد النقاش كثيراً عن جوهر الحدث وعن الدور الأميركي فيه ، وحصر البعض رسائل العملية في رغبة الكيان في التخلص من قيادة الحركة المقاومة وكبح أي مسار قد يفضي إلى اتفاق يوقف المقتلة في القطاع المجوّع المحاصر ، غمزاً من تهديد ترمب الأخير الواضح لحماس . ولاشك أن في ذلك كثير من الصحة ، لكنه ليس كل شيء، فرسائل النار التي دوّت انفجاراتها في العاصمة الدوحة تردد صداها في أرجاء المنطقة برمتها، وفي عواصم وصلتها الرسالة واضحةً جلية بالذات ، كالقاهرة وعمّان والرياض وأنقرة وبغداد، وصولاً إلى صنعاء التي تقلب كل الموازين . 
فالعدوان الكبير في دلالاته ، وبمعزل عن نتائجه العملياتية المباشرة، يصحّ اعتباره نقلة نوعية في عتبة وشكل المعركة في المنطقة وعليها ، ولاينفصل بحالٍ من الأحوال عن التشابكات التي تفرضها ملفات من أمثلة صراع النفوذ مع التركي في سورية وعليها مابعد إسقاط الدولة وتغيير هويتها فجر الثامن من كانون الأول الماضي ، واستهداف الشقيقة الكبرى مصر التي تشتعل النيران في كل الاتجاهات حولها ولايخفى حجم التآمر عليها والرغبة في أضعافها بل وتكسيرها ، والحال نفسه ينطبق على الأردن الذي يعيش خطراً وجودياً يتهدد هويته ودوره ونظامه السياسي تحت عنوان الجغرافيا التي يراد لها أن تحل بعض أزمات المشروع الصهيوني في فلسطين التاريخية وماحولها، وصولاً إلى العراق ودول الخليج العربي.

العدوان على الدوحة إذاً رسالة فاقت كل ماسبقها ، فهي للحلفاء هذه المرة قبل الخصوم والأعداء، ولكل الواهمين بأن رضى الأميركي أجدى من أسلحة المقاومين، ولاشك أن أي عاقل في المنطقة سيتحسس رأسه وهو يشاهد استباحة سماء المنطقة برمّتها وأعمدة الدخان تتصاعد من ضواحي عاصمة الحليف الموثوق الذي يستضيف واحدة من أكبر القواعد الأميركية في العالم؛ قاعدة العديد، سيما وأن أي عقل بارد سيقرأ بوضوح أن العملية أميركية تماماً وإنْ أوكل التنفيذ لكيان الاحتلال، ولعل في ذلك مايجيب على أسئلة الارتباك الذي يذكّر مجدداً أن حسابات واشنطن لاتقف عند حدود حسابات تل ابيب أو من يقود حكومتها ، وإن كان ذلك لايعني أبداً وجود تناقضٍ حقيقي بينهما.

في مقابل ذلك فإن ماحملته ردود الفعل لم يرقَ بعد لمستوى الحدث وعمق تداعياته ودلالاته، فالعالم بما فيه العرب اكتفى بالتنديد والإدانة ، وإن ارتفع منسوب الدعم الكلامي هذه المرة، دون أن يبلغ حدود التقاطر الفوري المتوقع على الدوحة حتى ، أو الدعوة لعقد اجتماعات طارئة لأيٍ من الأطر التي تمثل الدوحة أحد أركانها ومموليها الرئيسيين، ولاشهدنا مثلاً غمزاً تركياً من قناة الدعم العسكري كالذي شهدناه إزاء سورية أو إبان الخلاف القطري الخليجي الذي أفضى إلى قطيعة طالت ودفعت بالدوحة حينها نحو تركيا وإيران قبل أن يقطف الأميركي كل الثمار. فيصير ملحّاً السؤال عن الخيارات ؛ قَطرياً وعربياً وحتى تركياً، ناهيكم عن دول الخليج العربي التي تنتظر بدورها تغييراً حقيقياً على مستوى الأوزان والأدوار والعلاقات البينية ، فالعدوان ناقوس خطر مزلزل لاتكفي معه الإدانات والتنديد ، ولايفيد في مواجهته مواقف دول أوروبية وازنة باتت اليوم على هامش الفعل الدولي والتأثير في ملفات العالم بعد أن أمعن الأميركي في تحجيمها وإضعاف قدرتها على التأثير. ولاشك أن الخيارات محدودة ، فقطر وشركاؤها في الحلف الأميركي أمام خيار من اثنين لاثالث لهما ؛ مزيد من التنازل والخضوع ، أو الاستعداد والمواجهة وإن بطرقٍ غير مباشرة.

من حيث المبدأ ستجد قطر نفسها مدفوعةً نحو مزيدٍ من الارتماء في الحضن الأميركي والانفكاك عن أي علاقة مع حماس حد وقف استضافة قادتها، سيما وردود فعلها الأولية لم تحمل أي جديد مختلف عن سياقها المعتاد ، خاصةً وقد أصرّ وزير خارجيتها على ربط العدوان والسلوك الدموي الإجرامي الذي ينتهجه الاحتلال بشخص نتنياهو ويمينيّته المتطرفة؛ لا بوجود الكيان والمشروع الذي يمثّله من حيث المبدأ ، والذي يتناقض علمياً وعملياً وبالتجربة مع المنطقة برمتها ومع مستقبل أبنائها جميعاً. في مقابل ذلك تملك قطر ، إن امتلكت الإرادة ووجدت من يساندها، أن تنتهج مساراً مختلفاً يستفيد من الدرس الموجع ويسهم في خلط الأوراق ويراكم على، بل ويستثمر في، مايتحقق على مستوى العالم اليوم من تراجع استراتيجي لمكانة وصورة وسطوة الكيان والأمريكي ، والتي تحتاج قوىً حية للاستثمار فيه ، سيما وأن ثماره لن تنضج سريعاً، فقطر التي تستثمر المليارات في ملفات ولوبيات وعناوين ثبت عجزها عن تجنيبها ويلات القادم قادرة على الكثير من أمثلة تنويع التحالفات ودعم الدول المستهدفة والقوى الحية التي تواجه الكيان ومشاريعه، والاستثمار في قدراتها الإعلامية الهائلة واختراقاتها على مستوى بعض دوائر النفوذ في واشنطن وغيرها من العواصم في تشتيت المسار الذي يقوده ترمب للحفاظ على التفرد والهيمنة الأميركية في مرحلة انتقالية معقدة ستفضي إلى تغيير عميق على مستوى إدارة العالم وإعادة ترتيب الأوزان فيه،
وقطر لطالما امتلكت ولاتزال الأدوات اللازمة لانتهاج مقاربة جديدة وهي صاحبة التجربة العميقة في تحريك الساحات وتغيير الهويات وقلب الموازين ، سيما وأنها أو حليفها التركي على الأقل على أبواب اشتباكات حقيقية سواء في الداخل أو على مستوى الدور المناط وصراعات النفوذ في ساحات مهمة كسورية وليبيا وافريقيا وجنوب القوقاز.

إلى ذلك يجد النظام الرسمي العربي نفسه أمام استحقاقات كبرى، عنوانها الرضوخ لمتطلبات المشروع القادم في ظل استغنائه الطوعي عن عوامل المواجهة ، تماماً كما هو الحال بالنسبة لحماس وقوى المقاومة في المنطقة و لإيران التي تعيش ،جميعها، استهدافاً هائلا لايقل خطورة وتأثيراً ، مايجعل البحث في صيغٍ مشتركة ضرورةً لاتحتمل التأجيل، سيما وأن أثمان المواجهة تظل أقل بكثير من أثمان الرضوخ أو الاستسلام أمام مشروعٍ ثبت بأنه ماضٍ في نسف كل ما استقرت عليه المنطقة لعقود، ودون تمييز بين حليفٍ أو أداةٍ أو خصومٍ وأعداء . وفيما تتراجع أخبار المقتلة في غزة وتداعيات عدوان الدوحة على حركة حماس وعلى مستقبلها وخياراتها ومصير قادتها وإقامتهم عن الشاشات وعن عناوين الصحف والمواقع يبقى الثابت أن المقاومة التي تواجه الإجرام والقتل والتجويع ببسالة قل نظيرها لن تستسلم، ولن تقبل تفاهمات او اتفاقات تحوّل ما تراكم من مكتسبات للقضية وعدالتها إلى هزيمة كبرى تبعثر التضحيات الهائلة وتدمّر ماتعزز في الأنفس من إيمان بالتحرير وبالمقاومة وجدواها ، لكن ذلك لن يكون يسيراً اذا لم يغير النظام الرسمي العربي مقاربته، ولم يغادر الشارع العربي مربع المتفرّج وهو التالي في طابور طويل لا يقود إلا إلى المقصلة.

لقد بات من نافل القول أن المشروع الاستعماري المتجدّد في المنطقة يستهدف الجميع، وأن التساوق معه أو الرضوخ له لن يجلب غير الدمار والخزي ، وأن قراءةً مختلفة لاستدراك الاستنزاف والاستهداف على قاعدة المواجهة ونبذ الخلافات والاختلافات والتوحّد لتغيير المصير هي الخيار الوحيد السليم والملحّ فوراً ودون تأخير. فدلالات ودروس العدوان الصهيوني على الدوحة كثيرة وعميقة ومرعبة ، واليوم أمام قطر والعرب فرصة كبرى وربما أخيرة لحماية أنفسهم والمساهمة في حماية المنطقة قبل أن يطال الاستهداف كل شيء، فمن لم يشعر بعد بالرعب حد البدء بالعمل فوراً سيدفع أثماناً تفوق قدرته، ومن بعتقد أن المعركة ستتوقف طوعاً أو بالرضوخ واهمٌ أو مختل، ولعل الوقت قد حان لاستدعاء روح التضحية التي غابت طويلاً ووضع الشارع العربي أمام استحقاقاته ومهامه بعد عقود من تشويه البوصلة والعبث الممنهج المدمِّر؛ والوقت كالسيف.