+
أأ
-

أ. د. ليث كمال نضراوين : المحاكم الحزبية بين العدالة والإقصاء السياسي

{title}
بلكي الإخباري

من زاوية سياسية، تُعَدّ المحاكم الحزبية أداة أساسية لضمان استقرار العمل الحزبي وترسيخ قيم الشورى والديمقراطية الداخلية. فهي بمثابة سلطة قضائية داخل الحزب، تُعنى بتنظيم العلاقة بين القيادة والقاعدة الشعبية، والفصل في الخلافات التي قد تنشأ بين الأعضاء. ويمنح وجودها الحزب طابعاً مؤسسياً يعكس انضباطه والتزامه بقواعد وبرامج واضحة، بعيداً عن الأهواء الفردية والمصالح الشخصية الضيقة.

إلا أن الواقع الحزبي في الأردن كشف، منذ بدء العمل بتشريعات التحديث السياسي، عن فجوة واضحة بين النظرية والتطبيق. فقد تحولت بعض المحاكم الحزبية إلى أدوات إقصاء، تصدر قرارات بالفصل أو التجميد بحق أعضائها المنتسبين، لأهداف يغلب عليها الطابع الشخصي أو السياسي، في ظل غياب معايير العدالة والشفافية.

وتكمن الإشكالية التشريعية في أن قانون الأحزاب السياسية لم يتضمن تنظيماً تفصيلياً لآلية عمل المحاكم الحزبية، وإنما ترك الأمر للأنظمة الأساسية الداخلية لكل حزب التي تُقدَّم إلى الهيئة المستقلة للانتخاب مع طلب التأسيس. وبذلك، أصبح لكل حزب الحق في صياغة محكمته الداخلية وتحديد إجراءاتها القضائية دون مراعاة ضمانات المحاكمة العادلة وحق الفرد في الوصول إلى القاضي الطبيعي. والتجربة العملية تشير إلى أن هذه المحاكم تصدر قراراتها دون تمكين العضو المتهم من الدفاع عن نفسه وفي جلسات سرية لا تراعي مبدأ العلانية، فيما تأتي العقوبات مباشرة بصيغة الفصل أو التجميد، دون الالتزام بمبدأ التدرج في فرض الجزاءات التأديبية.

والأمثلة على ذلك عديدة؛ فقد أصدرت أحزاب أردنية خلال الأشهر الماضية قرارات بفصل أعضاء بارزين أو نواب منتخبين في السلطة التشريعية بحجة مخالفتهم أحكام النظام الداخلي. غير أن الإجراءات السابقة على هذه القرارات لم تكن شفافة، ولم تُعرض حيثيات المخالفات على الرأي العام أو حتى على القواعد الحزبية، مما عزز الانطباع بأن الهدف الحقيقي من هذه العقوبات كان إقصاء معارضين أو أصوات إصلاحية.

ومن الناحية القانونية، أخضع المشرّع الأردني قرارات المحاكم الحزبية لرقابة القضاء الإداري بدرجتيه لغايات تكريس المشروعية القانونية. إلا أن هذه الرقابة القضائية تظل لاحقة، تأتي بعد وقوع الضرر. وحتى مع إلغاء القرار، فإن الخسارة السياسية للحزب تكون قد وقعت، إذ تتزعزع الثقة بين القيادة وقواعدها، وتظهر الانقسامات الداخلية على السطح.

فالأثر الأوسع لهذه الممارسات الحزبية يتمثل في تراجع الثقة الشعبية بالأحزاب، وتعميق عزوف الأردنيين عن الانتساب إليها. فالمواطن الذي يرى أن العضو قد يُفصل تعسفياً لمجرد خلاف مع القيادة، سيتردد قبل الانضمام إلى أي حزب. وهذا يتناقض مع الرؤية الملكية السامية التي شددت على ضرورة تمكين الأحزاب لتكون رافعة للحياة السياسية وتشكيل الحكومات البرلمانية في المستقبل. كما أن قرارات الفصل التعسفي تؤدي في العادة إلى استقالات جماعية أو انشقاقات، ما يشتت الجهد الوطني ويضعف البنية الحزبية.

إن الحق في العضوية الحزبية ليس امتيازاً تنظيمياً فحسب، بل هو امتداد للحقوق الدستورية التي كفلها الدستور الأردني في حرية الرأي والاجتماع وتأسيس الأحزاب والجمعيات والانضمام إليها. ومن ثم، فإن أي مساس تعسفي بعضوية الفرد في حزبه السياسي يشكل اعتداء مباشرا على أحد الحقوق الدستورية الأساسية، وهو ما يضاعف من خطورة التعسف ويستدعي تشديد الرقابة القضائية والتشريعية على أداء المحاكم الحزبية.

وبالمقارنة مع التجارب الدولية، وخصوصاً الأوروبية، نجد أن القواعد الحزبية هناك تتمتع بضمانات واسعة. فلا يجوز فصل أي عضو إلا بعد جلسات علنية تتيح حق الدفاع الكامل، وتُنشر القرارات للرأي العام الحزبي. وتُعد المحاكم الداخلية هناك أداة لحماية الأعضاء من تعسف القيادة، بينما في السياق الأردني كثيراً ما تُستخدم لإقصاء المخالفين وتعزيز نفوذ القيادات التقليدية.

من هنا، يصبح إصلاح المحاكم الحزبية ضرورة وطنية. فالتحديث السياسي يتطلب أولاً أن يُنتخب أعضاء المحكمة من الهيئة العامة للحزب، مع إعطاء الأولوية لذوي الخلفية القانونية للاستفادة من خبراتهم. كما يجب النص صراحة على أن تكون إجراءات المحاكمة علنية، وأن تُنشر القرارات أو ملخصاتها للرأي العام لتعزيز الشفافية والشعور بالعدالة. ويجب أيضاً تحديد آجال زمنية للبت في القضايا الحزبية حتى لا يُستخدم التأخير وسيلة ضغط على الأعضاء، مع مراعاة مبدأ التدرج في العقوبات ابتداءً من التنبيه مروراً بالإنذار والتجميد وصولاً إلى الفصل.

إن نجاح الأردن في مسار التحديث السياسي مرهون بمدى مصداقية الأحزاب في الداخل قبل الخارج. فالحزب الذي لا يحترم قواعد العدالة والشفافية بين أعضائه، لا يمكن أن يطالب بثقة الناخبين. والرقابة القضائية قد تُعيد الحق قانونياً، لكن استعادة الثقة السياسية تتطلب إرادة حزبية صادقة تعترف بأن الإصلاح يبدأ من الداخل، وأن المحكمة الحزبية يجب أن تكون أداة عدالة حقيقية لا وسيلة إقصاء