بين الوحدة والانفصال محطات صنعت حاضر الأمة

د عاطف نايف زريقات
يصادف يوم 28 أيلول/سبتمبر ذكرى رحيل الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970 وهي ذكرى ترتبط وجدانياً بأحد أكثر فصول التاريخ العربي الحديث زخماً بالأمل والإحباط في آن واحد فعبد الناصر كان مهندس الوحدة بين مصر وسوريا التي أُعلنت في شباط/فبراير 1958 وهي تجربة تاريخية رائدة مثلت مشروعاً حقيقياً لبناء قوة عربية قادرة على مواجهة التحديات الخارجية،د وفي مقدمتها المشروع الصهيوني .
صحيح أن الوحدة بين مصر وسوريا شابتها أخطاء في الإدارة والتطبيق وكان من الممكن إصلاحها بمرور الوقت إلا أن الانفصال الذي وقع في 28 أيلول/سبتمبر 1961 لم يكن مجرد نتيجة لهذه الأخطاء بل كان في جوهره ضربة سياسية واستراتيجية هائلة وهدية ثمينة قُدمت لإسرائيل على طبق من ذهب لم يكن غريباً أن يصرح ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل بعد إعلان الوحدة قائلاً : لقد أصبحت إسرائيل بين فكي كسارة البندق . هذه العبارة تختصر حجم التهديد الذي شكلته الوحدة على الكيان الإسرائيلي وحجم المكاسب التي جناها الأخير من انهيارها ٠
إن من شارك أو سهَّل أو دبر الانفصال لم يرتكب خطأً سياسياً فحسب بل خان مشروع الأمة بأكمله لأن الوحدة لم تكن تجربة عابرة بل كانت بداية مسار قابل للتوسع ليشمل دولاً عربية أخرى ويحول حلم القوة العربية المشتركة إلى واقع .
وإذا كان الانفصال في سوريا طعنة نجلاء في جسد الأمة فإن الانقلاب الدموي في العراق عام 1958 كان بدوره خيانة كبرى إذ أطاح بالاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن الذي لم يكن مجرد صيغة سياسية انية بل مشروعاً جغرافياً واستراتيجياً مرعباً لإسرائيل . فقد كان هذا الاتحاد يمتد حتى الحدود الإيرانية ويجمع بين الأردن والعراق عبر تداخل سكاني وقبلي عميق فضلاً عن الثروة النفطية العراقية والعدد السكاني الكبير مما يتيح بناء جيش عربي قوي وقادر على تهديد إسرائيل في أكثر نقاطها هشاشة ٠
لقد كان عمق إسرائيل الجغرافي آنذاك محدوداً للغاية فأقرب نقطة بين طولكرم وقلقيلية حتى البحر المتوسط لم تتجاوز 12 كيلومتراً فيما لم يزد عمق أهم مدنها عن الضفة الغربية عن 14–20 كيلومتراً أي أن أي جيش عربي موحد وكبير العدد والعدة مثل الجيش الذي كان يمكن أن ينبثق عن الاتحاد الهاشمي كان قادراً على الوصول إلى تخوم تل أبيب بسرعة فائقة وبالتالي تقويض الكيان الإسرائيلي في مراحله الأولى .
غير أن الانقلاب الدموي في العراق لم ينهي فقط الاتحاد الهاشمي بل غير وجه المنطقة بأكملها وحرم الأمة من فرصة تاريخية لبناء كيان سياسي وعسكري يوازي الخطر الإسرائيلي .
والأسوأ أن هذا الانقلاب الذي غُلف بشعارات الثورة قدم في الحقيقة أكبر خدمة لإسرائيل وجعلها تتنفس الصعداء بعد أن كانت محاصرة بمشروعين وحدويين خطيرين الوحدة المصرية السورية والاتحاد الهاشمي .
إن التاريخ لا يُصنع بأعمار الأشخاص بل بالمشاريع التي يبنونها والوحدات التي يؤسسونها والتحالفات التي يصيغونها أما الانقلابات والانقسامات فقد أثبتت أنها لم تنتج إلا الضعف والتفتت ومنحت إسرائيل ما لم تحلم به في سنواتها الأولى .
في ذكرى رحيل عبد الناصر وذكرى الانفصال بين مصر وسوريا علينا أن نستحضر أن المشاريع الوحدوية لم تكن ترفاً سياسياً بل ضرورة استراتيجية وجودية. والانفصال أو الانقلاب ليسا مجرد أحداث تاريخية بل جراح مفتوحة في جسد الأمة ساهمت في إضعافها ومكنت إسرائيل من ترسيخ وجودها. إن إدراك هذه الحقائق شرط أساسي لأي تفكير جاد في مستقبل عربي قادر على النهوض من جديد ٠



















