سامح المحاريق يكتب : الأردن آخر حزام التين والزيتون

أتت حملة محمد علي على الشام لتدفع الفرنسيين والبريطانيين لدعم الإمبراطورية العثمانية، وأصبحت منطقة الشام كما نسميها، والليفانت كما يسميها الأوروبيون، نقطة ساخنة، فالقوى الاستعمارية وجدت أن بقاءها تحت سيطرة العثمانيين الذين يعانون من المشكلات المتراكمة، أفضل من وجود دولة قومية تنطلق من مصر بأحلام وطموحات كبيرة.الفاتورة الثقيلة لفشل العثمانيين في إدارة الإمبراطورية حضرت على الطاولة بعد خيارهم الوقوف بجانب الألمان في الحرب العالمية الأولى، فهل تترك الشام من جديد لاحتمالات مفتوحة، هل تبقى دمشق، الأم الشرعية لقرطبة وغرناطة، فرصةً واعدةً لدى دولة قومية جديدة؟العقل الأوروبي تيقظ لهذه الاستحقاقات والتقى مارك سايكس وفرانسوا بيكو لتمثيل بلديهما، بريطانيا وفرنسا، في تقسيم المنطقة، وعمل تشرشل على استكمال المشروع، وكان المبدأ العام، هو إسقاط الظروف الموضوعية لقيام دولة تستطيع ان تستولي على كامل الشام، وتستطيع توظيف موارده وثرواته، المادية والبشرية، فالشام بالمعنى الواسع يمتلك ثقلاً استراتيجياً من الصعب تخيله في واقع التشتت القائم، ولكن على سبيل المثال، الأراضي الزراعية في الشام والتنوع المناخي يفوق ما يتوفر لدولة مثل مصر، ووجود المشاغل والصناعات الصغيرة كان واعداً بصورة كبيرة، فالشوام لم يسهموا في تأسيس الطبقة الوسطى المصرية مع هجرتهم تحت ضغط الاستبداد العثماني، ولكن دورهم كان حاضراً في دول أمريكا اللاتينية، وأحفاد المهاجرين الأوائل، وصلوا إلى مناصب رئاسية في القارة البعيدة.واليوم، تحضر الليفانت بوصفها سؤالاً مهماً مع مشروعات طرق التجارة الجديدة، الحرير أو التوابل، أو أياً يكن، وبذلك، تدخل المنطقة في أزمتها الدورية من جديد.أين يقع الأردن من هذه الصورة؟بدايةً، الأردن هو حلقة الوصل بين الجزيرة العربية والشام، المدخل الشرعي والقطر الأكثر عروبة بين دول الإقليم، ومن قبل الإسلام كان مسكوناً بقبائل عربية، ولذلك عمق ثقافي كبير لم تستطع المؤسسات الثقافية الأردنية أن تستغله بالصورة اللازمة ربما في ظل سياسة التوفيق والتجنب التي كانت تحتم الخوض مع الناصريين والبعثيين في محطات كثيرة.من الناحية الاستراتيجية، يعتبر الأردن موقع الدفاع المتقدم عن الساحل، ولذلك بنيت المدن الرومانية العشر، الديكابوليس، لتمنع الفرس من التقدم تجاه البحر المتوسط، وتحرير القدس في زمن صلاح الدين الأيوبي، كانت خطوته الأكثر أهمية متمثلة في السيطرة على قلعة الكرك من القوات الإفرنجية التي اعتبرت الكرك منصة متقدمة لمنع تقدم العرب من الجزيرة أو العراق، فأتى تقدمهم من حلب والموصل مع الزنكيين، وداخل أرض حوران، ليثبت ذلك مدى أهمية الأردن في تقديم عمق للساحل الجنوبي الشرقي للمتوسط.يذهب بعض المشتغلين في التأريخ، أن إبقاء الأردن معلقة لفترة من الوقت، وتسميتها بترانس جوردان، هو لأنها أقل أهمية من غيرها من المناطق في الشام، ولكن الحقيقة أن الأردن بلد يستجلب الحيرة على المستوى الاستراتيجي، هو المدخل لتشكل الإقليم بصورة مستقلة، حيث يتداخل الإقليم مع الأناضول شمالاً، ومع حوض الرافدين غرباً، وتبقى الأردن مدخله الواضح جنوباً، وكذلك على المستوى الهوياتي، فالأردن آخر حزام التين والزيتون، بمعنى أنه الحد الطبيعي أيضاً، وفي مدى من الأميال القليلة يتجاور المنسف مع المكمورة، وهذه ليست مظاهر تتعلق بالمائدة، ولكن بالتشكل السكاني والحضاري، فالمنسف خطوة متقدمة على الأطعمة البدوية لاعتماده على الضأن الذي يحتاج إلى هوامش خصبة قريبة، أما المكمورة فتمثل شعوراً بالاستقرار ينعكس في هندسة الوجبة الغذائية التي تتطلب وجود الدجاج الذي لا يعيش في المناطق الصحراوية، ولم يكن قائماً في منظومة الغذاء البدوي.تقول الأسطورة، أن تشرشل عطس أثناء رسم الحدود الخاصة بشرق الأردن، ولكن الحقيقة، أن الرجل تأمل كثيراً، وقام بتغيير رأيه قبل الاستقرار على شكل مقبول تدعمه بريطانيا، وبالمناسبة، كان تشكل لبنان موازياً، ولكن الأمر استدعي جدالاً بين البطرك إلياس حويك والجنرال غورو حول توازن المسيحيين مع المسلمين في لبنان، وهذه مسألة متعلقة بالشرعية، وفي المقابل، لم يكن الأمير عبد الله المؤسس في مرحلة التعامل مع الوقائع الجغرافية منشغلاً بمسألة الشرعية لثقته في قدرته على الإجابة عنها في منطقة ليس غريباً عنها، وعلى العكس من ذلك، لم يكن يمانع في وجود فرصة لمزيد من الشركس والأرمن والعرب، فعدد سكان الأردن لم يكن يتجاوز 200 ألف نسمة في ذلك الوقت، جزء منهم يعيش حياة التنقل في الفضاء السابق المفتوح للإمبراطورية العثمانية، والتحديات تتطلب كتلة سكانية أكبر من ذلك بكثير.في الأردن ومنذ فجر الإسلام، وعلى الرغم من الواقع السكاني والمائي والزراعي واعتبارات أخرى كثيرة، تكمن النسخة الخاصة من التشكل الجيني بالشام أو الليفانت، وأي عملية استعادة للمنظومة وأي عملية مقاومة حقيقية، تقوم على النسخة الأردنية المدفونة بعيداً عن المناطق الساخنة سكانياً وطائفياً داخل الإقليم، ولذلك نجد داخل الأردن من يتمسكون بالدولة السورية أكثر من السوريين أنفسهم، ومن يتمسكون بالعراق أكثر من العراقيين، ومن يتأملون في مصر أكثر من المصريين، هذه ميزة ومشكلة في الوقت نفسه، ولكن ليس سياقها الحديث عن اللا – وعي الأوروبي.ما هو اللا – وعي الأوروبي؟وجدت الدولة الحديثة بمفهومها القائم حتى اليوم في أوروبا، ويمثلها سياسيون منتخبون من مواطنين يعيشون في أرقى أشكال الممارسة اللا – مركزية، ويفترض أنهم يتخذون القرارات بصورة تقوم على الشفافية والعقلانية، وذلك ليس دقيقاً بالكامل، هو مجرد صورة مثالية تحضر وراءها عملية تراكم طويلة المدى منذ غزو الجرمان للإمبراطورية الرومانية، وظهور أوروبا بديلاً لحوض المتوسط، ودخولها في صراع من فصول ساخنة مع المنافسين السابقين في الحوض مثل السوريين والمصريين وعرب وأمازيغ شمال افريقيا، والأتراك الذين قدموا للمشهد في مرحلة لاحقة، وذلك ما يمثل اللا – وعي الأوروبي.الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، لا يمتلك التأهيل المعرفي أو الذهني ليدرك ذلك، ربما كان رجال مثل شيراك وميتران يقفون على مساحة تقل أو تزيد من التفاصيل حول تلك العملية التاريخية وتفاصيلها السياسية والاجتماعية والثقافية، ولكن من يتخذ القرار، ويضغط من أجل تغيير المواقف الفرنسية رجال لا نعرفهم ولا نراهم مكانهم الطبيعي داخل منظومة الدولة العميقة في مكاتبهم بوزارة الخارجية الفرنسية، أو في المراكز البحثية التي ترفد الرئاسة الفرنسية وغيرها من اللاعبين السياسيين بالتصورات الاستراتيجية بعيدة المدى للصراع العالمي في بعده السياسي والحضاري.الأميركيون متحررون من اللا – وعي السياسي لضآلة التشكل التاريخي، وذلك ليس بالأمر الجيد فكثيراً ما تفلت منهم الأمور لأنهم يتعاملون مع معطيات مرتبطة بمرحلة تاريخية راهنة، باردة وجافة، أما الأوروبيون فيتعاملون بحساسية نفسية مختلفة، وكثيراً، وبعد جذب وشد، ما تمكن الأوروبيون من فرض التوجه القائم على عملية التراكم التاريخي ومنطقيتها مقابل الأمريكيين الذين ينظرون إلى العالم بوصفه خريطة من بعدين، متناسين أن الخريطة الأشهر بإسقاط مركاتور تمثل أحد أوقح تجليات المركزية الأوروبية.الأردن هو الجدار الاستنادي للوجود الحضاري للشام التي نعرفها، لأكثر من ثلاثة آلاف سنة من المعطيات المترابطة، والأردن القوي، هو المدخل للاستعادة في وقت ما، بعيداً كان أو قريباً، ليست هذه القضية، فالسؤال هو بقاء الأردن متماسكاً وقائماً بدوره التاريخي الحضاري وانعاكساتها السياسية والاجتماعية في هذه المنطقة.



















